لماذا نفكّر وما معنى التفكير؟
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> مصطلحات
تُعدُّ القدرةُ على مُواكبةِ الثورةِ المَعرِفيّةِ التي تَشهَدُها العلومُ الإنسانيّةُ في كافّةِ المجالات؛ مِن الشّروطِ الأساسيّةِ لتطوُّرِ الفِكرِ. إذ إنّهُ لا غِنًى عن قراءةِ هذه العلومِ وإعادةِ إنتاجِها، بمعنى أقْلَمَتِها مع واقعنا الثقافيِّ والمَعرفيّ. والفكرُ الصحيحُ هو القريبُ من الواقعِ الذي يعكِسُ هُمومَ الناسِ ويُعالجُ مشاكِلَهُم، وكُلّما توطّدتِ العلاقةُ بينَ الفِكرِ والواقعِ؛ تطوَّرَ الواقِعُ والفِكرُ معًا.
لا ريبَ في أنّ التفكيرَ مرتبطٌ بالمعرفةِ والعلمِ على حدٍّ سواء، إلّا أنّ هذهِ العلاقةَ لا تعني أنّ العلمَ والمعرفةَ هما مرادفانِ للشّيءِ ذاتِه؛ فالعلمُ معرفةٌ للواقعِ، ومعرفةُ الواقعِ لا تنشَأُ في الفكرِ البَشريِّ إلّا من خلالِ كشفٍ لبُنْيَتِهِ، أي (بُنيةِ الواقِع).
إنّ معرفةَ الواقعِ؛ نشاطٌ إنسانيٌّ يربِطُ بينَ الذّاتِ والموضوع، بطريقةٍ تتحوّلُ الذاتُ فيها إلى موضوع. كذلك يحدثُ العكس؛ إذْ يتحوّلُ الموضوعُ بدورهِ إلى ذاتٍ، وهذا يعني -في مجالِ معرفةِ الواقع- أنّ النشاطَ المَعرفيَّ يُحَوِّلُ الواقعَ ويُغّيرُه، الأمرُ الذي يؤدّي إلى حدوثِ تغييرٍ في فكرِ الناسِ أنفسِهِم.
لماذا نُفكّر؟
عندما يُطرَحُ هذا السؤال؛ فإنّ الإنسانَ سيقفُ أمامَ مسؤوليّاتِه الكبرى؛ بصفتهِ الكائنَ الوحيدَ الذي يمتلكُ أدواتِ التفكيرِ الذكيِّ ويستطيعُ تطويرَها؛ ليصلَ مِن خلالِها إلى حلولٍ للمشاكلِ والعقباتِ التي تواجهُه. وقد أشارَ الفيلسوفُ اليونانيُّ السُّفُسْطائيُّ أنطيفون (470-411 ق.م) لذلك بقولِه: «إنّ الإنسانَ كائنٌ مُتميّزٌ بالعقلِ والحِكمة، فهو -كما يقولون- أعظمُ الحيواناتِ ألوهيّةً».
معنى التفكير:
كثيرًا ما يقومُ الإنسانُ بأفعالٍ وتصرّفاتٍ قد تبدو مُستهجَنةً وغريبةً أحيانًا، وعندَ سؤالِنا عن سببِ إقدامهِ على هذهِ الأفعالِ؛ فمنَ المُحتملِ أن نسمعَ إجابةً مثلَ: «فعلتُ ذلكَ من دونِ تفكير». وإذا ما تأمّلنا إجابةً مثلَ هذه؛ سنجدُ أنها تنطبقُ على كثيرٍ من الأفعالِ التي نقومُ بها في حياتِنا اليوميّة، فالكثيرُ من تصرُّفاتنِا تَصْدُرُ عنّا بشكلٍ تِلْقائيٍّ، أو كَردوِد أفعالٍ واستجاباتٍ آليّةٍ لمواقِفَ مُعيّنةٍ؛ فأعْيُنُنا -مثلًا- تَطْرِفُ حين نشعرُ بتهديدٍ خارجيٍّ يقتربُ من الوجهِ، كما نقومُ عادةً بالانحرافِ عن الطريقِ الذي نسيرُ عليه حينما نواجِهُ عائقًا يعترضُنا. وهنالك الكثيرُ من أفعالِنا مصدرُها الاعتيادُ على القيامِ بهذا الفعلِ أو ذاك في مواقِفَ مُعيّنةٍ؛ إمّا نتيجةً لاكتشافِنا الطريقةَ بأنفُسِنا، أو عن طريقِ تقليدِ الآخرين.
متى نبدأُ في التفكير؟
عادةً ما يبدأُ الإنسانُ في التفكيرِ عندما يواجهُ أمرًا فيه صعوبةٌ ما؛ فالتفكيرُ منهجٌ يستخدمهُ الإنسانُ للبحثِ عن حلٍّ لمشاكلَ تواجِهُه، وهو عكسُ التصرُّفِ باعتباطيّةٍ قائمةٍ على النجاحِ والفشلِ، والمحاولةِ والخطأ. فالتفكيرُ: هو القوّةُ العقليّةُ التي يقومُ بها العقلُ الإنسانيّ، وتتعلّقُ بإيجادِ حلٍّ جيّدٍ لمشكلةٍ ما؛ عن طريقِ التأمُّلِ، دونَ فعلٍ ظاهرٍ، وهيَ العلاقةُ المُميِّزةُ للإنسانِ العاقل.
مراحلُ التفكير:
مهما تكُن طبيعةُ المشكلة؛ سواءً عَمليّةً أو نظريّةً، كبيرةً كانت أو صغيرة؛ فإنّ عمليّةَ التفكيرِ واحدةٌ في أساسِها، وعادةً ما تَمرُّ بالخطواتِ التالية:
1- الاهتمام: عندما يصبحُ الإنسانُ واعيًا بالمشكلةِ وبكلِّ ما يتعلّقُ بها؛ يُسْتَثارُ اهتمامُه، وتنشَأُ مرحلةٌ تمهيديّةٌ وضروريّةٌ لكلِّ تفكيرٍ هادف.
2- الانتباه: وفي هذه المرحلةِ؛ تجري صياغةُ المشكلةِ، ويتمُّ جمعُ المعلوماتِ المناسبة، كما يتمُّ العملُ على التحقُّقِ منها. ففي بدايةِ مرحلةِ الانتباه، يقومُ الإنسانُ بتحليلِ الموقفِ وتفكيكِه إلى عناصرِه المُكوِّنةِ له؛ بهدفِ عزْلِ العناصرِ المثيرةِ للصُّعوباتِ عن تلك التي لا تسبِّبُ عوائقَ أمامه، وعندئذٍ يتقدّمُ نحوَ المشكلةِ نفسِها؛ لكي يُبَلْوِرَها ويترجمَها إلى كلماتٍ على صورةِ سؤالٍ أو سلسلةٍ من الأسئلة، كما في حالةِ المشكلةِ المُعقَّدة.
وتُصنَّفُ هذه المرحلةُ على أنها (تحليليّة)؛ إذْ يتمُّ تحليلُ الموقفِ الذي كان سببًا في ظهورِ المسألة، كما يتمُّ عزلُ المشكلةِ وتحليلُها، ومِن ثَمَّ صياغتُها.
3- الاقتراحُ أو الفرض: وتبدأُ هنا مرحلةُ ظهورِ الحلولِ الممكنةِ للمشكلة؛ من خلالِ تبادُرِها إلى ذهنِ الشخصِ المفكّر، استنادًا إلى بعضِ الحقائقِ والمُعطَياتِ التي تُوصِلُنا إليها مع تطبيقاتِها. وحقيقةُ الأمرِ أنّ هذه المرحلةَ وسابِقتَها متكامِلتان؛ فالمعطياتُ الواقعيّةُ تقودُ إلى الاقتراحاتِ أو الافتراضات.
4- الاستدلالُ العقليّ: يعتمدُ الإنسانُ على أُسسٍ ومبادئَ عقليّةٍ ينطلقُ منها؛ حيثُ تُفَعَّلُ في هذهِ المرحلةِ نتائجُ كلِّ حلٍّ مُقترَحٍ أو مُفترَض، وعندما يستدلُّ المُفكّرُ على نتيجةِ كلِّ اقتراحٍ على حِدَة؛ فإنّ بعضَ الاقتراحاتِ سوفَ يتمُّ استبعادُها. وتتميّزُ هذه المرحلةُ باستخدامِ المنهجِ الفَرضيّ.
5- النتيجة: وتُسمَّى هذهِ الخطوةُ بالمرحلةِ (التأليفيّةِ أو التركيبيّة)؛ حيثُ يتمُّ الأخذُ بالحلِّ الذي يكونُ أكثرَ إقناعًا ومصداقيّةً. ونصلُ إلى هذه المرحلةِ عندما يكونُ بإمكانِ الشخصِ ضمُّ جميعِ جوانبِ المُعضِلة، كي يجعلَ منها كُلًّا مُركَّبًا لهُ معنًى.
6- استمرارُ الاختبار: إنّ هذا الاقتراحَ أو الافتراضَ الذي أخذْنا به في الخطوةِ السابقةِ، يكونُ موضِعَ مُتابعةٍ مُستمرّةٍ؛ فالشكُّ وعدمُ اليقينِ أمرٌ ضروريّ.
ممّا سبق، نجدُ أنَّ التفكيرَ نشاطٌ ذهنيّ، يهدفُ إلى إيجادِ حلٍّ لمشكلةٍ نظريّة؛ عن طريقِ التّعمُّقِ والتحليل، أو يهدفُ إلى رسمِ طريقةٍ للعمل للتغلُّبِ على مشكلةٍ عملية؛ عن طريق اتخاذِ قرارٍ بشأنِها. فليس ثمَّةَ تفكيرٌ إلا ويكونُ مُوجَّهًا نحو إشكالٍ معين؛ حتى يصبحَ حلُّ المشكلةِ هو الدافعَ إلى ذلك النشاطِ الذهنيِّ، والفرضَ الأساسيَّ لهذا النشاط.
المرجع:
إبراهيم رزوق، أسس التفكير العلمي، (اللاذقية: منشورات جامعة تشرين/ كلية الفلسفة، 2008).