ذبابة الفاكهة تنقل إلى أبنائها صفات شريك سابق! معيدةً "الذرّيّة البعيدة" إلى الذاكرة!
الطبيعة والعلوم البيئية >>>> عجائب الأحياء
منعت تلك الفكرة الملوك سابقاً من الزواج من نساء مطلقات أو أرامل، حيث آمن الناس بها واعتقدوا أن الطفل من امرأة أرملة سيحمل بعض صفات الزوج المتوفى عندما تنجب من ذكر جديد. كان أوغست وايزمان (August Weismann، 1834-1914) أول من سمى هذه الفرضية بـ Telegony (تعني باليونانية القديمة الذرية البعيدة)، لكنها كفكرة رُفضت أوائل القرن العشرين لعدم وجود دعم تجريبي لها. لكنّ الاكتشافات الحديثة أظهرت وجود آليات فيزيولوجية وجزيئية قادرة على إحداث الظاهرة. وعلى الرغم من أن النقاشات حولها تركزت حول الآثار التي تنتقل من حمل إلى آخر إلا أنها لا تفسر كيف يمكن لذكر عقيم أن يؤثر في مواليد شريكته اللاحقة من أب آخر.
مؤخراً أثارت الموضوع دراسة جديدة أثبتت أن نسل الأم قد يشابه شريكها الجنسي السابق، على الأقل في ذبابة الفاكهة! فحجم جسم الأفراد الجدد تــَــبــِــع حجم شريك التزاوج الأول للأم، بدلاً من الذكر الثاني الأب البيولوجي للذرية. تعدّ هذه التجربة؛ المرة الأولى التي أُثبتت فيها فرضية الـTelegony في المملكة الحيوانية. استخدمت في الدراسة إحدى أنواع ذبابة الفاكهة Telostylinus angusticollis والتي تتميز بوجود فروقات شكلية بين الذكور والإناث في الحالة الطبيعية لكن هذه الفروق تضمحل ظاهرياً في حال ربيت ذريتها على موارد غذائية فقيرة (شاهد الصورة).
أما عن تفاصيل ومراحل التجربة التي أُجريت على هذه الذبابة، فهي كالتالي:
1- مرحلة الحصول على نوعين من الذكور:
تم استخدام إناث عادية طبيعية، ونوعين من الذكور:
1- ذكور تم الحصول عليها عن طريق تنميتها أثناء المرحلة اليرقية في وسط غذائي يرقي غني بالمواد الغذائية، للحصول على ذكور كبيرة الحجم (طول صدرها كبير نسبياً)
2- ذكور تم تنميتها في وسط غذائي يرقي أدنى (أفقر) في مرحلتها اليرقية، للحصول على ذكور صغيرة الحجم.
حيث احتوى الوسط الغذائي اليرقي الغني على ثلاثة أضعاف البروتين والكربوهيدرات الموجودة في الوسط الفقير. تم الاحتفاظ بيرقات الذكور في غرفة مُحكمة بيئياً، وتم تعريضها للضوء والظلام بشكل متعاقب (12 ساعة ضوء / 12 ساعة ظلام) ودرجة حرارة 23 – 25 درجة مئوية، ورطوبة 50%.
2- مرحلة الاقتران الأول والثاني:
تم إجراء اقتران بين الإناث العادية الطبيعية التي لا تزال بويضاتها غير ناضجة مع ذكور من كل من الحالتين المذكورتين، وتركت الإناث مع شركاء التزاوج لمدة 24 ساعة. وبعد ذلك أُعيدت مجموعات الذكور إلى أوعيتها، وتركت الإناث لتكمل نضوجها الجنسي في أقفاصها الفردية.
بعد أسبوعين من التزاوج الأولي، وبعد أن نضجت بويضات الإناث، تم جمع الإناث مع الذكور من أجل الاقتران الثاني لمدة 24 ساعة أيضاً. بالنتيجة تم الحصول على أربع مجموعات تبعاً لحالة الذكر الأول والذكر الثاني المتزاوجان مع كل أنثى:
فالأنثى المُتزاوجة مع ذكر أول غني قبل نضوج بويضاتها– ومع ذكر ثاني غني بعد نضوج البويضات سميت بأنثى (غني، غني)؛ وقياساً عليه كان لدينا: أنثى (غني، فقير)، أنثى (فقير، غني) وأنثى (فقير، فقير). إن الفترة الزمنية المتروكة بين التزاوج الأول والتزاوج الثاني (الأسبوعان)، تضمن نضوج البويضات الأنثوية، وتقلل من انتشار الحيوانات المنوية الفعالة الباقية من التزاوج الأول داخل جسم الإناث. تم نقل عشرين بيضةً مختارةً عشوائياً من كل أنثى إلى وعاء يحتوي وسطاً يرقياً غذائياً فقيراً. ثم تركت اليرقات لتتطور في الغرفة المُحكمة بيئياً سالفة الذكر.
3- أفراد الجيل الجديد:
وُجد بأن حجم الأفراد البالغة من الجيل الثاني تأثّر بحالة شريك تزاوج الأم الأول وذلك في حالة الإناث التي تزاوجت مع (غني، فقير) حيث امتاز النسل بحجم جسم كبير على عكس الأب الذي يتبعون له وراثياً، أي تأثر حجم الجسم بصفات الزوج الأول. وفي حالة ذرية الإناث التي تزاوجت مع (فقير، فقير) فقد كانت صغيرة وبما أن كلا الأبوين السابق واللاحق فقيران فقد أجري اختبار الأبوة لمعرفة من تتبع وبالطبع فقد أعطى الاختبار ما مفاده أن جميع الأفراد دون استثناء تتبع جينيّاً للذكر الثاني.
تظهر النتائج السابقة أنه من الممكن للذكر نقل صفاته الظاهرية عبر عوامل غير وراثية، تنتقل عن طريق سائله المنوي إلى نسل الشريك اللاحق، حيث تأثر حجم أفراد النسل الجديد بالظروف البيئية التي أحاطت بشريك التزاوج الأول للأم.
الغريب أن هذا التأثير يستمر ويدوم حتى بعد التزاوج مع شريك جديد آخر. زد على ذلك أن تعرض الإناث للذكور بوجودها في نفس الوسط دون حدوث تزاوج لم يؤدي لتأثير الأب الأول في الذرية اللاحقة مما يثبت أن التأثير حدث بوساطة السائل المنوي، باعتباره الشيء الوحيد الذي انتقل من الذكر إلى الأنثى أثناء الاقتران.
تعتبر النتيجة مثيرةً لكون فترة التزاوج لا تزيد عن 43 ثانية ولا وجود لمحفظة منوية أو أجزاء تناسلية تبقى عالقة داخلياً أو خارجياً كما أن حجم قذفة الذكر أصغر من 1 بالمائة بالمائة (0.01 %) من حجم الذكر ويبقى التفسير الأكثر إقناعاً أن منتجاتٍ من غدة مستقلة عن إنتاج السائل المنوي ترافق القذفة إلى الأم.
يقترح الباحثون أن ذلك يرجع إلى كون جزيئات من السائل المنوي من الرفيق الأول قد تم امتصاصها من قبل البيوض غير الناضجة في مبيض الأنثى التي ستُشكل النسل الجديد في المستقبل، فالملامح التي تسري في العائلات لا تتأثر فقط بالجينات التي تنتقل من الآباء إلى أبنائهم، بل توجد آليات غير وراثية مختلفة تجعل من الممكن للعوامل البيئية التأثير على الخصائص المميزة للطفل.
أُثبتت النظرية إذاً في هذا النوع من ذباب الفاكهة، لكن العلماء لا يعرفون حتى الآن ما إذا كان هذا ينطبق على أنواع أخرى أو على البشر.
يعتقد البعض أنه من غير المحتمل أن ينطبق على الثدييات كالبشر، بسبب الاختلافات في علم وظائف الأعضاء التناسلية مقارنةً بالحشرات. وسيتطلب الأمر إجراء دراسات على حيواناتٍ أكثر مماثلةً للبشر (كالفئران) قبل البدء بالتخمين في هذا الصدد. حتى وقت قريب كان يعتقد أن جينوم الحمض النووي للحيوانات المنوية هو الشيء الوحيد الذي ينتقل إلى الأجيال القادمة من الذكور. بينما تعطي التجربة أدلة على أن ما يسمى بالمتغيرات غير الجينية يمكن أن تـــُمرّر عبر الذرية إلى جيل واحد على الأقل أو جيلين، ويمكن أن تتأثر هذه المتغيرات بالنظام الغذائي وبنمط الحياة وبتأثيرات مختلفة أخرى.
قد تكون فرضية الـ Telogony مقنعةً إلى حد ما عن طريق الآثار السلوكية؛ مثلاً: النساء اللواتي كن في السابق على علاقة برجل ثري، يتمتعن غالباً بصحة بدنية جيدة نتيجة الظروف الغذائية الجيدة، وبالتالي قد يكنّ قادرات على زيادة العطاء في ذريتهن عندما قد ينجبن من رجل آخر فقير.
بعض ما قد يفسر الظاهرة من دراسات سابقة:
- تشرّب الخلايا الجسمية للأم بنسبة من الحيوانات المنوية بالإضافة إلى بقاء جينات الجنين في دم الأم، وقدرة الـ رنا RNA على برمجة إعادة ترتيب الجينوم.
- يزوّد الذكور الإناث بمجموعة من البروتينات والجزيئات الأخرى مع السائل المنوي والتي يتغير تركيبها وتركيزها تبعاً للوسط التي يعيش فيها الذكر.
- التأثيرات المتعددة للمنتجات المنوية على سلوك ولياقة الإناث البدنية بالإضافة إلى أثرها على صحة النسل بالتأثير في الجهاز التناسلي الأنثوي.
أخيراً فإن الإقرار بانتقال الاختلافات عبر الأجيال بعمليات غير وراثية يستوجب إعادة النظر في الظواهر التي تم استثناؤها بموجب علم الوراثة الكلاسيكي.
المصادر:
هنا
هنا
هنا