الثورة الصناعية، بين البحث عن عن الأسباب واستقراء النتائج
التاريخ وعلم الآثار >>>> التاريخ
للإجابة عن هذا الطرح نستعين بالبروفيسور نيكولاس كرافتس الذي يُعد من نخبة العلماء ممن تحدثوا عن الثورة الصناعية و كـ أستاذ للاقتصاد والتاريخ الاقتصادي في جامعة وارفيك يكشف عن عدد من النقاط الهامة :
بدايةً لم يكن هناك إقلاع عظيم في التصنيع أو الإنتاجية. ففي بريطانيا زادت العمالة الصناعية 12٪ فقط بين عامي 1759 وَ 1851، و بالمثل ارتفع إجمالي إنتاجية العامل 0.4٪ فقط في السنة وذلك حتى عام 1830.
ووفقا لمعايير القرن العشرين يعد هذا النمو مخيب للآمال .
أمّا العامل الثاني فيقول أن التباين الكبير تمَّ بالفعل حينما تفوقت بريطانيا انتاجياً. حيث كان الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد الواحد أعلى بكثير في بريطانيا وهولندا وإيطاليا مما كان عليه في الصين ، فهذا ما فسر تقدم الغرب عن البقية بفارق كبير في زمن الثورة الصناعية .
ثالثاً: تركز التصنيع في عدد محدود من القطاعات. كـ المنسوجات ، وتجاوزه إلى حد كبير في مجال صناعة الخدمات.
وعلى الرغم من كل هذا، تكلل حلول منتصف القرن التاسع عشر بالنجاح حيث شكلت بريطانيا 23٪ من الإنتاج الصناعي العالمي ، وكان العامل البريطاني هو الأغنى في أوروبا، و عمل عدد قليل منهم نسبيا في الأرض.
و المثير للاهتمام أن هذا الموقف الفريد لم يكن نتيجة تغير سريع في القرن . حيث كانت ثورة بريطانيا هي الثورة الأبطأ، والأكثر تدرجاً مما كان يعتقد سابقا .
و السؤال هنا كيف يمكن تفسير هذه الثورة ؟ فنجد ثلاثة مؤرخين قدموا تفسيرات مختلفة : اقتصادية واجتماعية ووراثية ، وبدرجات متفاوتة، ولكن نتائجهم لم تكن شاملة.
كان تفسير روبرت ألن هو الأكثر نجاحا حيث وضع حجة مقنعة في كتابه "الثورة الصناعية البريطانية من منظور عالمي " . يقول ألن : كان نجاح بريطانيا نتيجة الأسعار النسبية وإمكانيات السوق. فكانت الأجور
مرتفعة ، بينما كان رأس المال والطاقة رخيصين. بالإضافة لذلك قدمت بريطانيا سوقا كبيرة للمنتجات المصنعة. وكانت النتيجة أنه من المنطقي استثمار آلة الغزل في إنكلترا وليس في فرنسا . مع ذلك تم الدفع للعمال البريطانيين أكثر من نظرائهم الفرنسيين .
و برغم من انخفاض أجور اليد العاملة في فرنسا ظل اعتماد آلة الغزل اكثر ربحاً. وبالمثل.. تم الدفع للعمال الأميركيين أكثر من نظرائهم البريطانيين ، ولكن مجال الصناعة لم يقلع هناك.
التفسير الثاني لـ جويل موكير في كتابه "الاقتصاد المستنير " :إن التاريخ الاقتصادي لبريطانيا بين عامي 1700وَ1850م يفترض أن التنوير يعني أن بريطانيا في أفضل وضع للاستفادة من أفكار ومعدات هذا العصر. في حين استفادت العديد من الدول الأوروبية من التنوير، لكن بريطانيا وحدها كانت تمتلك إمدادات كافية من الحرفيين المهرة الذين أتيحت لهم الحرية في أن يكونوا رياديي مشاريع .
وتتضمن نظرية موكير على العديد من العناصر التي ساعدت الاقتصاديين في تحديد مفاهيم مهمة للنمو الاقتصادي مثل رأس المال البشري والمادي ، و البحث والتطوير ، والمؤسسات الفعالة.
ومع ذلك فإن عمله ينقصه الكثير من الأدلة المثبتة .
وأخيرا التفسير الأقل نجاحاً هو لـ غريغوري كلارك الذي يتحرك بعيداً عن عالم المنطق الاستقرائي ، ففي كتابه "وداعا للصدقات " موجز لتاريخ الاقتصاد العالمي يؤكد أن الثورة الصناعية في بريطانيا كانت تحولاً سريعاً اتسمت بالتغيرات الديموغرافية والجينية.
النقطة البارزة في تفسير كلارك هو أن أعلى معدلات للولادات هي من الطبقات العليا ، مما يعني أن ذريتهم تشكل جزءاً كبيراً ومتزايداً من السكان البريطانيين . لذلك تنتشر جيناتهم وأخلاقيات عملهم في مساحات أكبر من السكان ، وهي من قامت بتشغيل الثورة الصناعية.
نجد أن تفسير كلارك مثير للجدل ولكن لحسن الحظ تمّ تقييم تفسيره من خلال إحصاءات رياضية وبالفعل كان كلامه صحيحا فقد وجدوا أن معدل الولادات في الطبقات العليا كان أعلى من معدلات الولادات في الشرائح الأخرى من السكان . ومع ذلك هذه الحالة كانت في أكثر من بلد أوروبي كما في الصين. فلماذا بريطانيا كانت مختلفة ؟ للآسف فان كلارك فشل في الاجابة على هذا السؤال.
في جميع التفسيرات هناك صراع بين الحقائق والنظريات. ولسنوات كان هذا هو الوضع في الاقتصاد ، فقد تم استبدال النماذج الرياضية للتعامل مع الحقائق والبيانات. و من الحكمة للمؤرخين عدم تكرار هذا الخطأ مرة ثانية. قدّم كرافتس وأمثاله خدمة كبيرة من خلال توفير الأدلة لدراسة التفسيرات المتنافسة، و هذا ما أدى إلى نبذ أكثر من نظرية من أبناء جيلهم ولكن كما قال توماس اديسون :
"إن النتائج السلبية ليست سوى ما أريد! انهم مجرد قيم بالنسبة لي كما النتائج الايجابية لا يمكن أبداً أن أجد الشيء الذي يقوم بالوظيفة حتى أجد ذلك الذي لا يفعل ذلك ".
المصدر:
هنا