الهويات القاتلة
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
أعرف تماماً أن الخوف يستطيع أن يدفع أي شخص كان إلى الجريمة، لكن لو حدث في حيّي مذبحة حقيقية بدلاً من الشائعات الكاذبة هل كنتُ سأحافظ على برودة دمي فترة طويلة؟ ولو أنَّي أمضيتُ شهراً في ذلك الملجأ بدلاً من يومين هل كنت سأرفضُ حمل السلاح الذي سيضعونه بين يدي؟".
هكذا تبدأ إحدى فصول الكتاب المدهش «الهويات القاتلة»، والكاتب ليس إلا «أمين معلوف» اللبناني الذي شَهِدَ فصول حرب أهلية طاحنة دارت رَحاها في لبنان سبعينيات القرن الماضي.
وفي حديثنا عن هذا الكتاب، دعوة مفتوحة لكل فرد منا -نحنُ الذين نقطنُ إحدى أكثر بُقَعِ الأرض «سخونةً»- لقراءة تجربة أمين معلوف وخوض غمار رحلته في معرفة الهوية، لعل أزمة الهوية التي نشهدها اليوم بوضوح والتي تنعكس في النزاعات التي تلف منطقتنا خاصةً، والعالم عموماً مردها إلى الجهل! الجهل بهويتنا قبل أي شيء آخر.
وهل تعتقد أنّك تعرف نفسك حق المعرفة؟!
حسناً، اعتقدت فترة طويلة أنني أدرك هويتي، لكن في المرة الأولى التي طالعتُ فيها هذا الكتاب راعني حجم الجهل، واللاوعي، ومحدودية النظرة لكلمة «هوية»، وهذا الجهل لا تُخَصّ به جهة أو شريحة أو فئة من الناس، بل نتقاسمهُ جميعاً بجدارة، فمعظمنا يعتقد أن هناك انتماءً واحداً يسود بسيطرته فوق كل الانتماءات إلى درجة أنّنا ندعوه هوية! قد يكون هذا الانتماء هو الوطن أو الدين أو غيره.
فلنقل إن أحدهم توجَّه إلينا بالسؤال الآتي: من أنت؟! فبماذا ستجيبه ؟!
ربما سأقول أنا كاتبة هذه الأسطر بأنِّي عربية سوريّة. أحدهم سيقول: أنا مسلم، ربّما إحداهن ستقول: أنا امرأة، آخر سيجيب بأنّه من جنسيتين مختلفتين وينتمي لبلدين أو حضارتين، وأحدهم سيقول: أنا أنتمي لعائلة عريقة، ربّما عشيرة أو بلدة أو قرية، وربّما سيشير إلى نفسه بلون بشرته فيقول: أنا أسود، أو يشير إلى عرقه، أو مذهبه، أو لغته، أو ميوله الجنسية... والتصنيفات لا تنتهي.
إذاً ما هي الهوية؟! أهي تلك الصفات التي توجد على بطاقاتنا الشخصية؟! مَن أعطانا إياها؟
المذهل أنَّنا لا نبالغ إن قلنا إن الجواب أيّاً يكن قد يساهم بصناعة سفَّاح! وإنَّنا قد نتحول بسهولة لـِـ قاتل للدفاع عن هوياتنا التي أضحت بدورها قاتلة.
قبل الخوض في غمار الكتاب الشائق المكتوب باللغة الفرنسية، لنحاول التعرف عن كثب إلى كاتبه الذي في معرض حديثنا عنه سنجد أنفسنا أمام محاولة للتعريف عن هويته! فمن هو أمين معلوف؟ أهو كاتب لبناني؟ فرنسي؟!
ربما تكون مقدمة كتابه خير محاولة للتعريف عنه. فلنلقِ نظرة على المقدمة:
" منذ أن غادرت لبنان عام 1976 لأستقر في فرنسا، سُئلت مرات عديدة، إن كنت أشعر أولاً أنَّني فرنسي أو لبناني وكنتُ أجيب دائماً: (هذا وذاك!). ليس من قبيل الحرص على التوازن أو المساواة؛ وإنّما لأنني إن أجبت على نحوٍ مختلف لكذبت. ولدت في لبنان وعشت فيه حتى بلغت السابعة والعشرين. العربية لغتي الأم. اكتشفت ديكنز ورحلات جلفر في الترجمة العربية أولاً، وفي قريتي الجبلية قرية أجدادي، عرفت أفراح الطفولة الأولى، كيف يمكنني أن أنسى لبنان أو أنسلخ عنه يوماً ؟ ولكنَّني، من جهة أخرى، أعيش على أرض فرنسا منذ اثنين وعشرين عاماً، وأشرب ماءها ونبيذها، وتلامس يداي أحجارها القديمة يومياً. وأكتب كتبي بلغتها. إذاً هل أنا نصف لبناني نصف فرنسي؟"
سأتوقف عن الاقتباس هنا، لأن الكتاب يتمتَّع بميزة الغواية التي تستدرجك لاقتباسه دفعة واحدة. ولنعد إلى مهمة التعريف بالكاتب، ولنكتفِ حالياً بإطلاق صفة واحدة للحديث عنه، وهي «كاتب» أو «مفكر» ريثما نفهم هويته المركَّبة ونفهم رغبته التي سيخلص إليها في نهاية الكتاب أو لنقل أمنيته التي لن نفصح عنها بل سنترك لكم مهمة معرفتها.
الكتاب المؤلَّف من 210 صفحات والمُدرج تحت خمسة فصول، يبدأ بفصل «هويتي وانتماءاتي»، وفيه يتكلم أمين معلوف بالتفصيل عن أصوله. يصفُ أمين معلوف نفسه بأنّه عربي مسيحي، لغتهُ الأم هي لغةُ الإسلام المقدَّسة والتي يشترك بها مع أكثر من مليار شخص آخر. ينتمي لعائلة تفخر بأنّها مسيحية على الأرجح منذ القرن الثاني أو الثالث أي قبل بزوغ الإسلام بكثير، وقبل أن يتحول الغرب إلى المسيحية. إذاً أمين معلوف يتمتع بخصوصية تميزه عن أي شخص آخر. فلنضف معياراً آخر إلى هذه الخصوصية، إنه «فرنسي»، كذلك هو «لبناني». وفي عملية تفحص هويته يضيف عدداً كبيراً من التصنيفات المتشعبة لنجد أنفسنا أمام حقيقة «أنّ الهوية تتشكل من عشرات العناصر، التي قد تجمع الإنسان مع أفراد وجماعات أخرى. لكنه ينفرد كائناً بما يميزه، حالهُ حال كل فرد منا، وكل فرد على سطح هذا الكوكب لا مثيل له».
نحنُ كائنات مركَّبة وفريدة في آن معاً! من هنا يأتي «معلوف» إلى الفخ الذي نقع فيه جميعاً حين نأخذ عنصراً من عناصرِ هويتنا لنختاره دونَ غيره فنقول «أنا مسلم»، «أنا عربي»، «أنا فرنسي»، «أنا زنجي»، «أنا يهودي»... لنختصر بذلك مركَّباتنا جميعها في عنصر واحد.
السؤال، لماذا نختار عنصراً من عناصر الهوية دونَ غيره؟ والجواب: إن كنت تشعر على سبيل المثال أن عقيدتك مهدَّدة، سيصبح انتماؤك دينياً! لكن لو كانت لغتك الأم هي المهدَّدة لاختزلت مجموعتك الإثنية هويتك كلها، أو إن كنتِ امرأة تعاني من مجتمع ذكوري مضطهد لأصبح جنسك هو ما يظهر على سطح مركبات الهوية. فيما لو كنت أسود اللون في مجتمع أبيض عنصري سيصبح ولاؤك للعرق. المخيف والمثير للهلع أن «الهوية» -التي يجب أن تكون مشروعاً معرفياً لكل فرد مِنّا- تتحوَّل لتصبح أداةَ قتل!
كل المذابح التي حدثت -وللأسف ما زالت تحدث- ترتبط بملفاتٍ عن الهوية، بعضها معقَّد وقديم جداً. أحياناً لا يتغير الضحايا على مرِّ الزمن، وأحياناً يصبح جزَّارو الأمس ضحايا، ويتحول الضحايا إلى جزَّارين. وفي هذه النزاعات تبرز الـ«نحن» والـ«هم»، ودائماً «نحن» تُشير إلى الضحايا الأبرياء والـ«هم» إلى المذنبين! ثم إننا نتمتع بأن نجمع الآخرين تحت الاسم نفسه وتسهيلاً للأمر نعزو لهم أفعالاً وآراءً جماعية:
" لقد ذبح الصرب، لقد هدم الإنكليز، لقد أحرق السود، لقد صادر اليهود، لقد رفض العرب، ودون أي اضطراب نطلق الأحكام على هذا الشعب أو ذاك، فهو(عامل) أو (ماهر) أو (كسول) أو (ماكر) وهذا ما يؤدي أحياناً إلى إراقة الدم".
" من أجل أن نقيس ما هو حقيقة فطرية بين عناصر الهوية، توجد لعبة ذهنية كاشفة للغاية: تخيَّلوا أن نعزل رضيعاً عن محيطه لحظة ولادته لنضعه في محيط مختلف، وقارنوا عندئذ بين الهوية المتنوعة التي يمكنه أن يكتسبها، والمعارك التي سيخوضها وتلك التي ستوفِّر عليه... هل من الضروري أن نوضح أن هذا الطفل لن يتذكر شيئاً عن ديانته الأصلية ولا عن أمَّته أو لغته. إن ما يحدد انتماء شخص ما إلى مجموعة هو تأثير الآخرين على نحوٍ أساسي، مثل الأهل، والمواطنين، والأخوة في الدين. وهكذا تُكتسب الهوية خطوة فخطوة."
في الفصول اللاحقة من كتابه يسأل معلوف ما الذي دفع بالانتماء الديني لأن يكون العنصر الأبرز في هوياتنا!
يقول: "ما الذي يدفع مسلم يوغوسلافي إلى الكف عن قوله بأنه يوغوسلافي ليؤكَّد أنَّه مسلم قبل كل شيء؟ وماذا يدفع عاملاً يهودياً عُدَّ طوال حياته في روسيا بروليتارياً لأن يؤكد أنَّه يهودي قبل أي شيء؟ كيف يحدث أن التأكيد على الانتماء الديني كان يبدو في وقت مضى أمراً غير ملائم، لكن اليوم يبدو طبيعياً ومشروعاً في العديد من الدول؟"
لا يتعلَّق الأمر ببعض الحالات المعزولة، فالعالم مليءٌ بالجماعات الجريحة التي ما زالت تتعرض للاضطهاد والتي تحلم بالحصول على الثأر. قد نتأثر لآلام هؤلاء، ونتعاطف مع رغبتهم في التحدث بلغتهم بحرية، أو ممارسة ديانتهم بلا خوف، أو المحافظة على تقاليدهم. لكن قد ننزلق من التعاطف إلى المحاباة، وهكذا قد لا نعرف أين يتوقف مشروع الهوية وأين يبدأ التطاول على حقوق الآخرين!
لذلك يطلق أمين معلوف على الهوية عبارة «صديق مزيف» فهي قد تصبح أداة حرب.
في الفصل الثاني من كتابه المعنون بـِـ«عندما تأتي الحداثة من الآخر»، يجب أن نعدِّل من جلستنا فنحن في معرض الحديث عن العالم العربي، تلك البقعة من العالم التي نقطن فيها نحن والتي كانت وما زالت -كما يبدو لأمد غير معروف- محطَّة للنزاعات والصراعات.
يطرح معلوف قائمةً من المسبِّبات التي جعلت الانتماء الديني الأعلى والأكثر تجذُّراً والتي قد لا يتسع مقالنا لفردها، ويجري عرضاً ذهنياً منشِّطاً لحالات قد تدفعنا رغم قسوتها للابتسام. فما قد تُشن حروب لأجله قد يبدو سبباً هشَّاً ساهمت الظروف في تراكماته، ممَّا أضفى عليه الثبات والتجذر ليصير مشكلة راسخة قد نقتَتِل من أجلها وعليها.
في فصله الثالث بعنوان «زمن القبائل الكوكبية»، يتحدث معلوف عن الإنسان حين يصبح ابن عصره، بمعنى أننا نحن أقرب إلى معاصرينا مما نحن إلى أجدادنا.
" هل أبالغ إن قلت بأنَّني أمتلك مع أي عابر تختاره بالمصادفة في أحد شوارع براغ أو سان فرانسيسكو أشياء مشتركة أكثر بكثير ممَّا يوجد بيني وبين جدي الأكبر؟ ليس فقط المظهر والملبس والمسلك، وليس فقط طريقة العيش والعمل والمسكن والأدوات التي تحيط بنا، وإنما المفاهيم الأخلاقية أيضاً وعادات التفكير."
يكمل معلوف قوله: "مَن منَّا لم يتولد لديه الانطباع من وقت لآخر بأنه شهد من التغيرات في سنة أو سنتين ما كانت في الماضي تمتد على مدى قرن؟"
ينتقل في الفصل نفسه إلى فكرة العولمة، حسناتِها وربما سلبياتِها. في الحقيقة تناولُ هكذا أفكار قد يبدو معقداً، لكن مع طريقة عرض جذَّابة منطقية ومتوازنة للأفكار يعرض معلوف كيف نحافظ على هويتنا دون أن نشعر بأنَّنا في المؤخرة..مؤخرة الركب الحضاري.
نأتي إلى الفصل الأخير من الكتاب بعنوانه المثير: «كيف نروِّض الفهد»!
" لماذا الفهد تحديداً؟ لأنَّه يقتل إذا طاردناه، ويقتل إذا تركناه طليقاً والأسوأ أن نتركه في الطبيعة بعد أن نكون قد جرحناه، ولكن لماذا اخترت الفهد! لأنّنا نستطيع أن نروِّضه."
أزمة هويتِنا لا يجب أن تعالَج بالاضطهاد والتواطؤ إلّا إذا أردنا أن يتحول عالمنا إلى غابة. أمَّا إذا أردت أيها القارئ، أنتَ! وأنتِ! إذا أردتم أن لا يكون مستقبلكم أسوأ من الماضي، إذا أردتم أن تتجنَّبوا أن يشهدَ أطفالنا بعد خمسين عاماً المذابح وعمليات الطرد وتطهيرات أخرى ربّما سيخضعون لها، يجب علينا لجم الفهد.
"إنَّ هذا الكتاب ليس دليلاً للأدوية"- حسب قول الكاتب- لكنه يحاول جاهداً على نحوٍ صادق ومنطقي طرح تفكيرٍ رصينٍ وشامل لترويض وحش الهوية في كل مِنَّا.
أخيراً... تبدو مَهمَّة طرح أفكار كتاب كثيف وغني وبالغ في الحساسية كهذا الكتاب مهمةً مستحيلة. تتقافزُ الأفكار وتدعوك لأن تتلوها بصوتٍ عالٍ على كل مَن حولك. يدفعنا إلى ذلك حس بالمسؤولية، ورغبة توَّاقة لـ«لجم الفهد». لكن هي محاولة أقرب إلى المرور على عجل على العناوين، أمَّا القراءة فهي مهمة تقع على عاتق كل فرد منَّا...
ودعونا ختاماً نتقاسم مع «أمين معلوف» أمنيته التي يَسرِّبُها إلينا في الصفحة الأخيرة من الكتاب:
" عندما يصل الكاتب إلى الصفحة الأخيرة، تكون أمنيته أن يبقى كتابه مقروءاً بعد مئة عام. بالنسبة لهذا الكتاب، أتقدَّم بأمنية معاكسة، أن يكتشفه حفيدي عندما يصبح رجلاً، في مكتبة العائلة بالمصادفة، فيقلِّبه ويتصفحه قليلاً ثم يعيده إلى المكان المغبر الذي سحبه منه، ويهز أكتافه مستغرباً أنَّه في زمن جدِّه كانت هناك حاجة بعد لقول مثل هذه الأشياء."!
معلومات الكتاب:
الكتاب بعنوانه الأصلي: Les Identités meurtrières
تاريخ النشر: 1998
عدد الصفحات : 210
دار النشر: Grasset
الكتاب بنسخته الإنكليزية: In the Name of Identity
صادر عن دار نشر Time-Warner 2001
أما بنسخته العربية، فهو بعنوان «الهويات القاتلة» ترجمة: د.نبيل محسن عام 1999 عن دار ورد للطباعة والنشر.