المثيولوجيا الكلاسيكية السورية، بين التأثير الفارسي والروماني: الجزء الأول - التجمع الحضاري
التاريخ وعلم الآثار >>>> الحضارة السورية
فـخلال ذلك العصر كانت جبال لبنان مغطاة بالمعابد الوثنية، حيث استرعت أماكن العبادة انتباه المسافرين والعلماء منذ القدم. تلك المعابد المعلّقة ما ببن السماء والأرض، تغنّى بها الكثيرون من الشعراء. ومنها رسالة مدونة باليونانية كتبها لوقيانوس السميساطي، تحكي قصة زيارته لموقع أفقا الشهير (نبع أدونيس). وهي تفيد قارئها عن نمط الحياة الدينية، التي كانت سائدة ومتّبعة في جبال لبنان، خلال عصر الاحتلال الروماني. وقد تواجدت تلك المعابد بكثرة، ولم يزل بعض منها قائماً حتى يومنا هذا، وذلك في العديد من المواقع الأثرية السورية.
التجمع الحضاري الديني :
إنّ سكان سورية هم من أعرق الشعوب صلة وتواصلاً مع الشعوب الأخرى، فـعن طريق التجارة، وتبادل السلع والصناعات، تسرّبت الثقافات إليها من الهند وفارس واليونان والرومان، وإنّ تأثيرهم عليها كان حتمياً، فذلك التفاعل الحضاري كان له تأثيره الإيجابي، حتى وإن كان قد وصل عبر الحروب والغزوات، فإنّ النتيجة المهمة هو ذلك الغنى الذي اكتسبته سوريا من تدفق تلك الشعوب، واكتشاف أمواجها التي زحفت إلى شواطئ هذه المنطقة وتفاعلهم على جغرافيتها التي أخذت منهم، وأعطت لهم الكثير من السّمات والميزات الثقافية والفكرية.
لقد تعددت العبادات وكذلك الآلهة في سوريا خلال العصر الروماني وحتى القرن الرابع كانت هذه البقعة، أرض تنوع الآلهة، حتى ولو كان يختبئ أحياناً الإله الواحد وراء عدّة تسميات. فهنالك آلهة الفينيقيين، الآراميين، العرب، اليونان، الرومان، كانت تتمازج مع بعضها بعضاً، دون إمكانية التفريق بينها بدقة أحياناً. فمن خلال الأسماء والألقاب، وتنظيم أماكن العبادة، والهياكل المقدسة، كان بالإمكان التعرف على ممارسة الطقوس الدينية والعادات ذوات الأصول المتعدّدة. ومع الوقت كانت الآلهة تتأثر الواحدة بالأخرى، فإنّ أماني المؤمنين كانت تهدف إلى تأمين الخلاص، وشيئاً فشيئاً تغّير المعتقد الذي كان سائداً عن الآلهة المتعددة، الفائقة القدرة والأزلية، وساد معتقد وجود إله واحد مميز هو الإله الكلّي القدرة.
ومع الوقت تطورت المظاهر والأوجه الشمسية لبعض المعتقدات. معتقد عبادة نمسيس Némésis، إلهة يونانية وهي إلهة الانتقام، ولكن هنا تعني القدر أو المستقبل الكوني. وكان السحر والشعوذة وعلم الفلك والتأمل سائدين، وترجموا بهاجس خلاص عدد كبير من الناس، عن طريق السحر وعلم الفلك والتخمين والتحذير والحدس. وقد جرت العادة بأن يلجأ الحكام والملوك، والأباطرة مثلهم مثل عامة الشعب باستشارة الآلهة قبل الإقدام على أيّ عمل، خاصة قبل اتخاذهم قرار الحرب والسلم، فسبتيموس سيفروس استشار وحي الإله زيوس الموجود في أفامية، والذي تنبأ له كاهنه بمستقبل عظيم. وإنّ إيلاجابالوس حمل معه الحجر النيزكي الأسود، من معبده في الرستن إلى روما عاصمة الإمبراطورية. وهذا ما قامت به الملكة زنوبيا قبل إقدامها على دخول الحرب مع أورليان، كما كانت العادة قبل إقدامها على خوض الحرب.
وتمثلت استشارة الآلهة بوضعها التقدمة لها على الماء، التي كانت تتألف من الذهب والفضة. فإذا سقطت التقدمة عمودياً فمعنى ذلك أن الآلهة تمنحها بركتها، وتوافق على خوضها المعركة، وإذا طفت هذه التقدمة على سطح الماء كان معناه أنّ الآلهة لا تمنحها البركة، وأنّ حربها ستبوء بالفشل.
يشار إلى أنّ الأقلية اليهودية التي تبعت السيد المسيح حوالي العام 30 ميلادي، بقيت على معتقدها الجديد خلال العصر الروماني، ولقد دعوا في العام 40 ميلادي، مسيحيين. وقد أطلقت تلك التسمية للمرة الأولى في أنطاكية. كان هناك ثلاثة أنواع من الآلهة، الأولى محلية والثانية آلهة جُلبوا مع المستوطنين اليونان، ومن بعدهم الرومان. كما كان هناك آلهة ذات صفة عالمية، وإنّ هذه التعددية للآلهة وإن كان لكلّ إله خصائصه ومميزاته، فإنّ نقاط التوافق، والتشابه فيما بينها كان كبيراً، وكان لكلّ إله شخصيته، ومميزاته، ولم يكن بالمقدور معرفتها إلّا من قبل المتعبدين أنفسهم. وقد كانت المعابد مخصصة لعبادة كبار الآلهة، وعلى رأسهم جوبيتر، كما كانت لتخليد ذكرى الأباطرة، الذين أُلِّهوا بعد وفاتهم.
وقد اختلفت هندستها بحسب المناطق، ففي الغرب كانت مربعة أو دائرية الشكل. أما في الشرق فقد حافظت على طرازها، ووصلت إلى قمة عظمتها في بعلبك. فالحياة الدينية في سورية خلال العصر الروماني، احتوت على ذات المكونات كباقي المقاطعات الشرق أوسطية: عبادات مدنية، آلهة النجاة والخلاص، وإنّ بعضها كان محلياً كـ"أتارغاتيس Athargadis" و"أدونيس Adonis". وبالرغم من وجود عدد كبير من الهياكل إلّا أنه يمكن تمييز خصائص الهياكل العائدة للعبادات المحلية. ففي بعلبك (هيليوبوليس) بدأ الإمبراطورُ "أنطونينوسُ الورِع" Antonin le Pieux ببناء معبد ضخم مكرَّس لعبادة إله الشمس "هليوس" وانتهى بناؤه في عهد كاراكَلا ولقد برعَ النحاتون والمعماريون بأعمال فنّية رائعة، لتزيين المعابد والقصور.
وفي صيدا (صيدون)، كان هناك الإله الشافي، إشمون أسكليبيوس Eschmoun-Asclépios وهو الإله المهيمن على باقي الآلهة. وفي صور كان الإله ملقارت Melqart سيد المدينة يتمتع بسيادة كاملة. وفي جبيل Byblos كانت الآلهة بعلات Baalat "الرئيسة" تحتّل المرتبة الأولى. وفي جميع المناطق المذكورة كانت تلك الآلهة تصبغ بلون قوي كلون الأرض وتكون على طبيعتها أي عارية.
وإنّ البعل المحلي هو إله الشتاء والزرع، وهو ممزوج مع الآلهة عشترات Ashtarté آلهة الخصب. وفي أرواد (أرادوس) عدّ زوس Zeus الإله الشافي، أمّا في تدمر فقد كانت الآلهة الثلاثية بِل، عجليبول، وملكبول.
وفي سورية الداخلية: كان للآراميين آلهتهم المحلية المعروفة ببعل "Baal". وفي دمشق كان الإله حدد Hadad إله المطر، والعواصف يمتزج مع الإله اترغاتيس Atargatis وبعل شميم Baalshamim إله السماء وسيد الزرع، وكان من الصعب تفريقه، عن الإله حدد مانح الثروة والغنى. وتكمن الأهمية في الصفة التي تميز بين الإله حدد، المتواجد في كلّ من دمشق وبعلبك. أو غزة (Zeus Marnas).
كما أنّ الإله بعلشميم كانت له مكانته، وقداسته، وكان مميزاً في سورية الداخلية، وله هيكل على مدخل البتراء، كما أنّ الآلهة أتارغاتيس قدّست، واحتفظت بهيبتها ووقارها في كلّ سورية، وكانت تعرف إما باسمها الأصلي أو تحت اسم الآلهة السورية. أو تحت اسم "ديرسيتو" Dercéto في فلسطين.
كما يذكر أنّ الأنباط كانوا أقرب إلى قريش ويشاركون قريشاً في عبادة الآلهة (ذو الشراة– اللاّت– العزّى...) بالإضافة إلى ذلك، كان لمملكة الأنباط علاقة إنسانية مع اليونان، والرومان، وسكان شبه الجزيرة العربية، وبلاد مصر، وكان ذلك سبباً لتأثر الأنباط بعبادات، وأديان تلك الشعوب.. إضافة إلى الآلهة الكلية القدرة، كان يوجد عدة آلهة محلية، تواجدت في أماكن عالية، فبعل مرقود Baal-Marqod فوق بيروت. وإيلاجابالوس Elahagabal في حمص الذي يعني اسمه إله الجبل كما عُبِد الإله بعل مدباخوس Baal Madbachos في جبل الشيخ. وبيل غالازوس Zeus Beelgalasos في فقرا، كذلك انتشرت آلهة العرب في كلّ المنطقة حتى تدمر واختلفت أسماؤهم حسب القبائل والشعوب.
فعند الأنباط إله جبل بترا دو شارا Dou-Shara Dousarès إله شارا Shara أصبح إله الحرب، اللات Allat آلهة، سماوية وتقابلها الإلهة أثينا عند اليونان.إذاً؛ لقد استقطبت الأرض السورية واستوعبت كلّ المؤثرات الفكرية، والفنية، والدينية خلال العصر الروماني، واستطاعت أن تحقق تمازجاً قلّ نظيره، وخاصة في مجال العبادة والآلهة التي كانت معروفة خلال ذلك العصر.
السواح ، فراس (2003) موسوعة تاريخ الأديان. دمشق: دار علاء الدين للنشر و التوزيع و الترجمة. مج(2)
العريبي، محمد (1995) الديانات الوضعية المنقرضة. بيروت: دار الفكر اللبناني.
نصحي، ابراهيم (1998) تاريخ الرومان منذ أقدم العصور وحتى عام 133. القاهرة : مكتبة الانجلوالمصرية.
عبد الكريم ،مأمون (2009) آثار بلاد الشام في العصور الكلاسيكية. دمشق: جامعة دمشق.
عثمان، سهيل . و الأصفر، عبد الرزاق (1982) معجم الأساطير الرومانية و اليونانية. دمشق: وزارة الثقافة
Hans-Peter Schmidt، Mithra (2006) Encyclopedia Iranica . New York: Iranica.com.
ديورانت، ويل (1993) قصة الحضارة. دمشق : دار طلاس للدراسات.