طيور الشّوك.. بين الواجبِ والحبّ.. الأسطورةُ الّتي تجسّدتْ في عائلة.
كتاب >>>> روايات ومقالات
في هذه العائلة الكبيرة تتنوّع النماذجُ البشريّة فيها، فنجد "فرانك" مثلاً الابن الأكبر والأكثر غرابة في علاقته مع والده ووالدته. فالتّفاهمُ الغريبُ الّذي يجمعه بوالدته -حتّى أنّك تظنّ أنّهما شخصٌ واحدٌ- يقعُ على النّقيض تماماً من علاقته الضّبابية مع والده، فيبدو الرّجلان وكأنّهما يتحدّثان بلغتين مختلفتين وكأنّ جسورَ التواصل بينهما قد احترقتْ وتركتْ خلفها الأبَ والابنَ على ضفّتين بعيدتين.
ونتابع في الرّواية تعاقب الأحداث في حياة "فرانك" وخوضه تجارب العمل والسّجن وسعيه الدّائم لإثبات قوّته واستحقاقه، كلّ ذلك نتيجةَ معاناته عُقدة نقص حادّة تعود إلى قِصر طوله الواضح وشعوره بالغربة عن أبيه، وإحساسه بوجود حلقة ناقصة في حياته، فانعكست هذه الظروف ُ كلها لتشكل شخصية تتأرجح بين الحبّ الشّديد والحنان الجّارف على أمّه وأخته، وبين القوّة الجّسديّة والغضب الأعمى في تعامله مع مَن يعتبرهم منافسين لوجوده.
ومن الشّخصيات الذّكرية الجّوهريّة في هذه الرّواية هي "بيدريك كليري" الأب العامل في جزّ الأغنام بشكلٍ رئيسيّ، وعادة ما تصوّر الكاتبة شخصيّة ذكورية نموذجيّة، أبٌ يعملُ طيلةَ السّنة لتوفير الحياة الكريمة لعائلته، صارمٌ حازمٌ ولا تمثّل العواطفُ جزءاً رئيسياً من تكوينه، مع استثناء رئيسيّ يتمثّل بحبّه الشّديد لزوجته، حبّ ٌ لا يبدو أنّ باستطاعة مصاعب الحياة الرّيفية وجفافها أن تخدش غلافه الفولاذيّ أو تؤثّر به.
ومثال الأم والزّوجة في هذه الرّواية هي "فيونا كليري" وهي امرأة فريدة من نوعها، شقراءٌ جميلة وتبدو كفرد من أفراد العائلة المالكة رغم فَقر ملبسها ونمط حياتها، لكنّها تتراءى أحياناً كجنرال من جنرالات الحرب، تقومُ بواجباتها المعتادة يومياً بلا تخاذل ولا تقصير، تنجب الأولاد وتطعمهم وتؤمّن لهم مستلزمات الحياة، ثمّ تكونُ الزّوجةَ المطيعة. لكن ورغم كونها نموذجاً مثالياً للزوجة الصّالحة إلّا أّنه لا يغيب عن ذِهن القارئ في متابعته لصفحات الرّواية بأنّ "فيونا" تبدو أحياناً وكأنها قد أُفرغت من كلّ أشكال العواطف والمشاعر، بل وتظهر أحياناً بأنّها حتى في تعاملها مع أولادها تتحرّكُ بفعل الواجب والعادة، لا الحب والرّغبة في بذل كل شيء لإسعاد عائلتها.
ولعلّ أبرزَ الشخصيات في هذا الكتاب هي "ميغي" الفتاة الوحيدة في عائلةٍ تعجّ بالرّجال والمزارعين. "ميغي" وجدتْ نفسها منذ نعومة أظفارها تتّخذ موقعها في المنزل إلى جانب أمّها لتقوما بإحداث التّوازن المطلوب في حياة الذكورِ الخشنة. ففي بلد زراعي كنيوزيلندا تبقى مهمة النساء تقليدية مقتصِرة على أعمال المنزل والعناية بالأطفال حتّى يصلوا إلى سنّ المراهقة، حيث يتمّ إرسالهم بعدها إلى المزارع لينخرطوا في مجالات العمل. فكانت "ميغي" الأخت الصغرى المدللة نوعاً ما، ومثّلتْ بنفس الوقت مصدراً للحب والحنان لتعوّضَ إخوتها بعضاً مما قصرت به والدتُها في منحهم، وكان هذا الاختلافُ الأوضح بينهما، فلم تكنْ "ميغي" يوماً من هؤلاء الأشخاص الخائفين من مشاعرهم، ولم تتوانَ يوماً في شبابها عن التعبير عما يدور في قلبها سَواء أكان حباً أو خوفاً أو رعباً أو حتى عشقاً لا أمل منه.
وما يقودنا للحديث عن "الأب رالف دوبريكاسار"، الرجلُ الذي يبدو كأسطورة أغريقيّة والذي وهبَ نفسه للكنيسة في شبابه. فعمل في أستراليا راعياً للكنيسة الكاثوليكيّة في منطقة ريفيّة تدعى "غيللي" حيث تقيم "ميري كارسون" أخت "بيدريك كليري" والمالكة لإحدى أكبر المزارع في تلك المنطقة. ومن هذه المزرعة تتغيّر حياة آل كليري إلى الأبد بعد انتقالهم إليها للعناية بها بناءاً على طلب "ميري كارسون" وهناك يلتقون بالأب "رالف" الشّاب الذي ينضمُ إلى عائلتهم الصّغيرة بصفته راعي الكنيسة المحليّة، ويُظهر تعلقـه بالطّفلة "ميغي" ورَغبته الدائمة بحمايتها من كلّ سوءٍ ليكون ملاكاً حارساً فعلياً لها ويقودها عبرَ سنوات الطّفولة لتكمل تعليمها هي وأخوتها في أفضل المؤسسات التعليمية.
لكنّ استمرارَ الحياة على هذا النمط المستقر والهادئ أمر مستحيل، فمع وصول "ميغي" إلى سن المراهقة وتحوّلها إلى فتاة فائقة الجّمال تنتهي الصّورة الورديّة للحياة الرّيفية المترعة بالسّكينة لتحلَّ محلّها غيوم الصّيف الأسترالي العاصفة، فيغرقُ القارئُ في قصص الضّياع والميراث وقصص الحب الأسطوريّة المكبّلة بقيود المجتمع والتّقاليد والنّذور الكهنوتّية، لتكونَ الرحلةُ بين صفحات هذا الكتاب كدوّامةٍ تُلقي بالقارئ بين العواطف والواجب والنّزاع الأبديّ بهما، ولن يكونَ من الغريب لو أمسكتَ بنفسك في حالةٍ من الذّهول والصّدمة مرّة، أو لو اكتشفتَ بأنّك قد بكيتَ بحرارةٍ عند موت أحد أبطالِ هذه الرّواية، فالكاتبة أبدعتْ في نسجِ خيوط قصّةٍ عائليةٍ تُقحمك فيها كقارئِ فعّالِ لتقفَ في زوايا الغرف وتتابعَ الحوارَ وكأنّه يدورُ على بعد لمسةٍ منك، فترى "ميغي" راكضةً تُسابِقُ ضربات قلبك في ثوبِها ذي اللون المُسمّى رماد الزهور، أو ترى عينيّ الأب "رالف" وهما تصلان إلى أبعد أعماق روحك، وتتمنّى لو يمكنك نزع كلّ هذا الألم والحرمان منهما.
ومن الجّدير بالذّكر غزارةُ التّفاصيل التي تصفُ الحياةَ في ذاك الجّزء البعيد من العالمِ، سَواء أكان الوصفُ عن سهول نيوزيلندا المنبسطة وعشبها البري أو مزارع أستراليا الواسعة والتي تمتدّ إلى اللانهاية، ممتلئةً بكلّ أشكال الأشجار والأعشاب والحيوانات ومناخ أستراليا القاسي الذي قد يبدو كمعركةٍ دائمة مع الطبيعة.
وتصلُ أخيراً عزيزي القارئُ إلى نهايةِ هذه الرُّحلة الخرافيّة، وتطرح التساؤل التالي:
ماذا كان مصيرُ العصفورِ المغني بعد أن غرزَ الشّوكةَ القاتلةَ في صدرِه؟
هل ستكون خاتمةُ حياةِ هذه العائلة مشابهةً لخاتمةِ الأسطورة السلتية التي تنطوي في نهايتِها أقدمُ الحقائق المعروفة على هذه الأرض: ((ويجمدُ الكونُ ليسمعَه، ويبتسمُ اللهُ في سماواتِه، لأنّ الأفضلَ لا يُبلَغ إلا بألمٍ كبير.. ))
معلومات الكتاب:
الكتاب: طيور الشوك
الكاتب: كولين مكلو
المترجم: نضال حواط
ISBN: 0380018179
صدر لأول مرة عام 1977 وصدرت النسخة المترجمة عن دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر.