غارقون في الضوء! - أنوار المدينة الساطعة.. تلوث من نوعٍ آخر
الطبيعة والعلوم البيئية >>>> علم البيئة
Image: v3.co.uk
ماذا نقصد بالتلوث الضوئي إذاً؟
ماهيته:
هو التأثير السلبي للضوء الصناعي بما في ذلك توهج السماء والضوء المنتشر بشكل فوضوي أو الذي يتضمن هدراً للطاقة، ولا تتبع دراسته لعلم الفلك وحسب بل إنه يؤثر فينا مباشرةً؛ فتأثيراته الخطرة تمتد إلى الأحياء والممتلكات كما أنه يحجب عنا رؤية السماء ليلاً.
لتحديد التلوث الضوئي فإننا بحاجة للبحث عن الضوء الذي لا تتم الاستفادة منه بشكل فعال أو لا تتم الاستفادة منه أبداً. وللتبسيط فإن الضوء الذي يستعمله غيرك ويتعارض مع رغبتك بالظلمة ليلاً وبشكل يتعدى خصوصيتك هو ما قد يمكن اعتباره تلوثاً ضوئياً، وكمثال؛ نذكر أن أحلك المناطق في الولايات المتحدة هي صحراء نيفادا ومع ذلك لا يزال بالإمكان رؤية أضواء لاس فيغاس من على بعد 400 كم.
من أين أتى؟
عند البدء بالحديث عن التلوث الضوئي يتبادر إلى الذهن السؤال التالي... لِمَ نستخدم الإضاءة مع أننا –البشر– أنواع نهارية وقد تطورت عيوننا لتعمل بشكل أفضل في النهار ولو أننا نستطيع العمل ليلاً بمساعدة بعض المخاريط في أعيننا التي تكيفت للعمل في الضوء الخافت؟.
قد تكون رؤيتنا لجاذبية النهار هي ما جعلتنا ننير الليل إضافةً لخوفنا الفطري من الظلمة التي لربما تخفي حيواناً مفترساً مثلاً، أو على الأقل هكذا تطور سعينا نحو الإضاءة الصناعية.
استطاع مصباح توماس أديسون عام 1879 أن يضيء أول شوارع نيويورك ليبدأ عصر الإضاءة الكهربائية ومنذ ذلك الحين والعالم غارق في الضوء الكهربائي. فصارت السيارات والشوارع والساحات واللوحات الإعلانية والمنشآت الرياضية جميعها تشاهد من بعيد حتى من الطائرات.
لن نحاول في هذا المقال أن ننكر فائدة الضوء الصناعي من إطالة اليوم الإنتاجي إلى الأنشطة الترفيهية التي تتطلب الضوء لكن جل ما نحاول قوله هو وجود تأثير سلبي على الإنسان والطبيعة للضوء المتبعثر الذي لا طائل منه والذي تسبب في فقدان نصف سكان أوربا وثلثي سكان الولايات المتحدة قدرتهم على رؤية درب التبانة. وفي حدث لا يخلو من الطرافة ضرب زلزال لوس أنجلس في العام 1994 مما تسبب بانقطاع التيار الكهربائي وبدأت السلطات حينها بتلقي العديد من المكالمات الهاتفية تبلغ عن وجود سحابة فضية غريبة في السماء، اتضح فيما بعد أن تلك السحابة الغريبة التي رآها السكان حينها لأول مرة لم تكن إلا نجوم مجرة درب التبانة والتي كانت أضواء المدينة تحجبها عن النظر.
ينتج التوهج الضوئي الذي يلاحظ حول المدن كهالة مشرقة في الليل عن الضوء المتبعثر من على قطرات الماء المعلقة في الجو وعن الجسيمات العالقة في الهواء. كما يُعتبر تسربُ ضوء مصابيح الإنارة إلى داخل الأماكن المجاورة "والتي لم نقصد إنارتها" نوعاً من التلوث الضوئي. أما الإضاءة الزائدة Overillumination فتشير إلى تجاوز الحد المطلوب من الإضاءة الصناعية اللازمة لأداء نشاط معين مثل إبقاء الأضواء مشتعلة في مكاتب مبنى فارغٍ ليلاً.
كيف يؤثر؟
يؤثر التلوث الضوئي في النباتات والحيوانات إذا يمنع العديد من الاشجار من التكيف مع التغيرات الموسمية وفقاً للفصل من السنة، الأمر الذي ينعكس على الأحياء الأخرى التي تعتمد هذه الأشجار كمأوى أو غذاء. يغير التلوث الضوئي كذلك سلوكيات الحيوانات أيضاً ومناطق بحثها عن الطعام ودورات حياتها وتكاثرها ليس فقط في المراكز الحضرية الكبرى المتمثلة بالمدن بل في الأرياف أيضاً. وحتى عند البشر تضرب الفوتونات الضوئية شبكية العين مما يتسبب باضطراب إيقاع الساعة البيولوجية وقد يكون بعض الضوء القادم من خارج غرفنا سبباً في استيقاظنا خلال الليل.
تضع العديد من السلاحف البحرية بيضها على الشواطئ وتمنع إضاءة هذه الشواطئ السلاحف من التعشيش كما يشوشها ويدفعها للتجول بعيداً نحو الطرقات حيث تتعرض لخطر الدهس بالسيارات. وحين تفقس البيوض تنتقل السلاحف الصغيرة موجهةً نفسها ضوئياً بأن تبتعد عن أفق اليابسة الشديد الظلام ليلاً "في الحالة الطبيعية" متوجهةً نحو المياه، وعند وجود ضوء صناعي على الشاطئ تندفع السلاحف باتجاهه مما يجعلها تعجز عن إيجاد البحر مما بتسبب في جفافها وموتها.
تعطل المصابيح سلوك الطيور أيضاً وأنماط هجراتها خصوصاً خلال الطقس العاصف مع قلة الغيوم حيث تنجذب الطيور إلى الضوء المنطلق من المباني وأبراج الهاتف التي تعلوها أضواء مما يصيبها بالارتباك. يتعرض 10 آلاف طير سنوياً في نيويورك وحدها للموت أو الإصابة لاصطدامه بناطحات السحاب والمباني الشاهقة ويموتُ لنفس السبب ما مجموعه 98 مليون طائر في أمريكا الشمالية.
أما الضفادع فتعاني من الحد من قدرتها الإنجابية وفشلها في التزاوج عند التعرض للضوء المفرط ليلاً، كما كشفت التجربة تعديل السلوك الغذائي للخفافيش بفعل التعرض للضوء الصناعي. وتعتبر جميع القوارض الصغيرة وآكلات اللحوم و80% من الجرابيات (كالكنغر) و20% من الثدييات ليلية النشاط ولن تكون إضاءة الليل في صالحها.
ماذا عن البشر؟
لم يتم التعرف بشكل فاصل ومباشر على الآثار الصحية للتلوث الضوئي على البشر كما هو الحال مع الحياة البرية ولكن توجد بعض الأدلة المقنعة التي تربط التعرض للضوء الصناعي ليلاً ببعض المشاكل الصحية كسرطان الثدي. لا يسبب الضوء المشكلة حتماً، لكن التعرض للضوء أثناء الليل يحدث خللاً فيزيولوجياً في الساعة البيولوجية والتنظيم الهرموني والعصبي للجسم مما يسبب تسريع نمو الورم.
تشمل الساعة البيولوجية تنظيماً لأنماط موجات الدماغ وإنتاج الهرمونات وتنظيم الخلايا والأنشطة البيولوجية الأخرى. يرتبط اختلال هذه الساعة بالاكتئاب والأرق وأمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان، عدا عن أنها تتحكم بـ 10 - 15% من جيناتنا الأمر الذي يعني ارتباطها بالكثير من المشاكل الصحية.
ذكرت دراسة المعهد الوطني لعلوم الصحة البيئية في الولايات المتحدة عام 2006 تقريراً يشير إلى احتمال وجود صلة بين الإضاءة الصناعية وصحة الإنسان. وقد ذكر أيضاً أن زيادة مخاطر سرطانات الثدي والبروستات والسمنة والسكري المبكر في المجتمعات الحديثة خلال العقود الأخيرة قد لا تكون مصادفةً. فهي تعكس التغيرات الهائلة في كمية ونمط الضوء الصناعي خلال الليل والنهار . يعتبر الميلاتونين مفتاحاً لفهم خطر الإضاءة على تحفيز السرطان وهو هرمون تفرزه الغدة الصنوبرية ليلاً لتنظيم ساعة الجسم البيولوجية ويسبب الضوء طبيعياً كان أم صناعياً انخفاضاً حاداً في إنتاجه الأمر الذي ثبتت مساهمته في زيادة خطر الإصابة بالسرطان. ليس الميلاتونين العامل الوحيد لكنه أحد العوامل التي تم التوصل إليها وتفسيرها.
إن العلاقة بين الإضاءة واضطرابات النوم بديهية إلى حد ما ويمكن أن يسبب الفشل في ضبط الساعة البيولوجية اضطرابات نوم مثل اضطراب العمل الإضافي shift-work sleep disorder الذي يصيب العاملين خلال الليل ومتلازمة تأخير النوم delayed sleep–phase syndrome التي تجعل الأشخاص غير قادرين على النوم إلا بشكل متأخر جداً بحيث يجدون صعوبةً جمـّـة في الاستيقاظ اليوم التالي.
يؤثر التعرض للضوء الصناعي لحديثي الولادة في وحدات العناية المركزة سلباً على إيقاع الساعة البيولوجية للأطفال الخدج فقد عـُـرّضت فئران حديثة الولادة لضوء مستمر لأسابيع ففشلت في تنظيم دورة حياتها الطبيعية كما خلص البحث إلى أن ذلك يسبب الاكتئاب واضطرابات مزاج أخرى لدى البشر.
كيف نحد من هذا التلوث؟
يجب على الإضاءة أن تراعي:
- تحسين الرؤية في الليل لما نريد رؤيته فقط.
- تقليل استهلاك الطاقة.
- تقليل التأثير السلبي على البيئة وعلى أنفسنا.
- تقليل التوهج المؤذي.
أخيراً نتعرض كبشر شئنا أم أبينا للضوء الصناعي عند زيادة عدد ساعات الضوء سواءً لتمديد فترة النشاط مساءً أو لتبكير فترة بدء النشاط صباحاً وهذا أمر لا مفرّ منه. لكن إذا نظرنا للدول شديدة الفقر في العالم الثالث حيث يتعرض الناس لـ 12 ساعة ظلام تقريباً سواءٌ كانوا نياماً أم لا وإذا ما ربطنا ذلك بنسبة انتشار بعض الأمراض في العالمين المتقدم والنامي فسنجد علامة استفهام كبيرة قد يجيب عليها التلوث الضوئي، ولم تفلح الأبحاث حتى اليوم إلا بوضعنا على بداية الطريق.
ليس التلوث الضوئي هدراً للطاقة وأمراً مزعجاً من الناحية النفسية وحسب كما أنه ليس فقط مثبطاً لتطلعات البشر وطموحهم نحو الفضاء وليس فقط مخرباً لسلوك الأحياء، بل إنه سبب للعديد من الاضطرابات والأمراض للجنس البشري.
يمكنك معرفة مقدار التلوث الضوئي خلال الأعوام الخمسة الأخيرة في أي مكان في العالم من الخريطة التالية :
هنا
أما عن سورية فالفرق واضح بين العالمين 2010 و2015
Image: sources
المصادر:
هنا
هنا