الفارابيّ، أبو الأفلاطونية الإسلامية المُحدثة
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> أعلام ومفكرون
هو أبو نصر، محمدُ بنُ أوزلغ بنِ طارخان الفارابيّ. فارسيُّ الأصل، من مدينةِ فاراب في خُراسان، وهي اليومَ: ولايةُ فاراب في أفغانستان، وُلد عامَ 870 للميلاد.
بدأ دراستَه في فاراب، وانتقل بعدَها عامَ 901م إلى بغداد؛ ليُكملَ دراساتِه العليا. تتلمذَ على يدِ النِّسطوريِّ؛ أبي بشرَ، مَتّى بنِ يونُس، ثم على يدِ يوحنّا بنِ هيلان، في حرّان. وقد أتقن الفارابيُّ الكثيرَ من اللغات، وبَرع في كثيرٍ من الفروعِ المعرفيّة، كما كان موسيقيًّا محترفًا، وألّفَ كتابًا في الموسيقا سمّاه (كتابُ الموسيقا الكبير) وما زالت الموسيقا العربيّةُ تُستمَدُّ مِن نوتاتِه.
تنقّلَ الفارابيُّ بينَ مصرَ ودمشقَ وحلبَ وحَرّانَ وبغداد، كما زار سيفَ الدولةِ في حلب، وكان رفيقًا مُلازِمًا له. تسلّمَ منصِبَ قاضٍ في البَدء، لكنّه تخلّى عنه فيما بعد، وأصبح معلّمًا، ويُقالُ إنّ أغلبَ أعمالِه كُتبتْ هناك، في حلب.
تُوفي الفارابيُّ وفاةً طبيعيّةً في دمشقَ، نحوَ عامِ 950م.
فلسفتُه:
كان الفارابيُّ أولَ فيلسوفٍ مسلمٍ فَصل بين الفلسفةِ والدين، وعَدَّ الإدراكَ العقليَّ متفوّقًا على الوحيِ والخيال. وقد أعطى للفلسفةِ أسبقيّةً بصفتِها مصدرًا للحقيقةِ والإرشادِ في جوانبِ الحياةِ العمليّة؛ كالسياسةِ وعلمِ الاجتماع. كما رأى أنّ الدينَ أداءٌ رمزيٌّ للحقيقة، وهَدفَ إلى مطابقةِ التعاليمِ القرآنيّةِ بالحقيقةِ الفلسفيّة.
عُرف عن الفارابيِّ تأثّرُه بالأفلاطونيّةِ الحديثة (Neoplatonism)، إلّا إنّه كان متأثّرًا أيضًا بالأرسطوطالية، وقد حاول إظهارَ الوِفاقِ الأساسيِّ بين أفلاطون وأرسطو في مواضيعِ (أو مفاهيمِ) خلْقِ الكون، وطبيعةِ الروح، والثوابِ والعقابِ في الحياةِ الأخرى.
والفارابيُّ هو المعلّمُ الثاني بعدَ أرسطو؛ المعلّمِ الأول؛ بسببِ تفاسيرِه التوضيحيّةِ لأعمالِ أرسطو في المنطق. وقد صَنّف المنطقَ في مجموعتين منفصلتين؛ (التخيُّلِ) و(الثُّبوت).
على الرغمِ من انتشارِ أفكارِ ابن سينا أكثر، إلّا إنَّ الفارابيَّ كان صاحبَ الأفكارِ الأساسيّة، والتي احتُوِيتْ ضمن الفلسفاتِ اليهوديّةِ والمَسيحيّةِ والإسلاميّة. كما أصبحت عقيدةُ الفارابيِّ في الوجودِ والجوهرِ؛ الأساسَ في ميتافيزيقا ابن سينا، التي تبنّتْها فيما بعدُ المَسيحيّةُ، عن طريقِ القدّيسِ توما الأكوينيّ.
الميتافيزيقا:
يُعدُّ الفارابيُّ أبا الأفلاطونيّةِ المُحْدَثَة (الإسلاميّة)؛ فقد استبدلَ العقيدةَ القرآنيّةَ في الخلْق، وأَحَلَّ محلَّها النظريّةَ الأفلاطونيّةَ المُحْدَثَة؛ في انبثاقِ الكونِ مِن كائنٍ إلهيٍّ سمّاه (العقلَ الأوّل)، يتّحدُ فيه الجوهرُ والوجود.
يَفيضُ مِن هذا الأولِ: (العقلُ الثاني)، وهو غيرُ ماديّ. يَعقِلُ (أو يُدرِكُ) هذا العقلُ الثاني العقلَ الأوّل؛ فيَفيضُ منه (العقلُ الثالث)، ويَعقِلُ ذاتَه -بعدَ عَقْلِهِ لله- فيفيضُ منه الجسدُ والروحُ (للفلكِ الأول). والعقلُ الثالثُ يَعقِلُ العقلَ الأوّل؛ فيَفيضُ منه (العقلُ الرابع)، ويَعْقِلُ ذاتَه فيَفيضُ منه الفلكُ الثاني. وهكذا دَوالَيكَ إلى أنْ نصلَ إلى العقلِ العاشرِ والفلكِ التاسع.
العقلُ العاشرُ هو (العقلُ الفعّال)، الذي يَعقِلُ العقلَ الأوّلَ فتفيضُ منه النفسُ البشريّة، ويُدرِكُ العقولَ السابقةَ فتفيضُ صورُ الأشياء، وعند عَقْلِه لذاتِه، تفيضُ منه العناصرُ التي تَنشأُ منها الأشياء، وهو الذي يتحكّمُ في عالَمِ الأرض، وبه تتّصلُ العقولُ البشريّةُ بعالمِ الغيب.
قَسّم الفارابيُّ العقلَ الإنسانيَّ إلى أربعةِ أنواع: العقلِ بالقوّة، والعقلِ بالفعل، والعقلِ المُستفاد، والرابطُ بينهم هو العقلُ العاشر (العقلُ الفعّالُ).
العقلُ بالقوّةِ هو الاستعدادُ المَحْضُ لإدراكِ المعقولات. والعقلُ بالفعلِ هو ما بعدَ إدراكِ الذاتِ لهذه المعقولات. والعقلُ الفعّالُ هو الذي ينقُلُ الإدراكَ مِن (العقلِ بالقوّةِ) إلى (العقلِ بالفعل). أمّا العقلُ المُستَفادُ فهو درجةُ إدراكِ المعقولات.
على سبيل المثال: الطفلُ الصغيرُ (رجلٌ) بالقوّة؛ لأنه سيغدو رجلًا عندما يكبُرُ، ويصبحُ من غيرِ الممكنِ تحوُّلُه إلى كائنٍ آخر. وعندما يكبُرُ ويصبحُ رجلًا، يكونُ حينَها (رجلًا بالفعل)، والذي ينقُلُه مِن القوّةِ إلى الفعلِ هو (العقلُ الفعّال). أمّا العقلُ المُستَفادُ فهو المرتبةُ العليا التي يصلُ إليها.
وقد وَظّف الفارابيُّ منهجَ الأفلاطونيّةِ المُحْدَثَةِ في وصفِ الإلهِ من خلال خاصيّاتٍ سلبيّة، مثل: غيرِ القابلِ للتجزُّؤ، وغيرِ المحتمِلِ للتعريف. بالإضافةِ إلى ذلك، فقد رَفض الفارابيُّ القدَر، فالمنطقُ يحتِّمُ أنّ كلَّ حادثٍ يجبُ أنْ يَتْبعَه حدثٌ آخر، وهذه المعرفةُ لا تنقُلُ بالضرورةِ الحدثَ ذاتَه. وقد رأى أنّ للأنبياءِ دورًا في تفسيرِ الحقيقةِ للناسِ العاديّين، عبر القوانينِ والمجاز.
المدينةُ الفاضلة.. عملُ الفارابيِّ الأكثرُ شهرةً في العلومِ السياسيّة:
يرى الفارابيُّ أنّ الإنسانَ حيوانٌ سياسيّ، ومفهومُ السعادةِ هو مفهومٌ أساسيٌّ بالنسبةِ إلى فلسفتِه في السياسة؛ فالجميعُ يتعاونُ في مدينتِه الفاضلة؛ لتحقيقِ السعادةِ بالخير.
إنّ المدينةَ الفاضلةَ لديه مثلُ الجسدِ السليم؛ فهي تعملُ كما يعملُ أعضاءُ هذا الجسد. والأميرُ هو الحاكمُ المُطلَق، وروحُه موحَّدةٌ مع العقلِ الفعّال. ويوافقُ الفارابيُّ أفلاطونَ في أنّه على الأميرِ امتلاكُ الفطرةِ السليمة، وإظهارُ التصرُّفِ الصحيح؛ بصفتِه حاكمًا، وعليه أيضًا أنْ يكونَ خطيبًا جيّدًا، صاحبَ بنْيةٍ قويّة، وفَهْمٍ وذاكرةٍ جيّدَين، ومحبًّا للتعلُّمِ والحقيقة، كما عليه أنْ يتعالى عن الحياةِ الماديّة، وأنْ يمتلكَ القوّةَ المطلَقةَ على المدينةِ ومواطنيها.
يُصنَّفُ المواطنون أيضًا من خلال معاييرِ القوّةِ والحقوقِ التي يتمتّعون بها؛ فكلُّ واحدٍ منهم يأخذُ أوامرَه ممّن هو أعلى منه مستوًى وأقوى سلطةً. وعلى هؤلاء الناسِ المكتسِبين للفضيلةِ تحسينُ أنفسِهم؛ بدراسةِ العلومِ النظريّة، وتطويرِ شخصيّاتِهم؛ بالتمسُّكِ بالعاداتِ الحميدة.
أمّا الأمير، فيُمَرِّنُ قدراتِه ومسؤوليّاتِه؛ بتوظيفِ قدراتِ القادةِ الذين يرأسُهم؛ ليُشكِّلَ شخصيّةَ الطبقاتِ الأدنى بإرشاداتِه. ويفعلُ ذلك إمّا بالإقناع (وبهذا فهُمْ بحاجةٍ إلى إتقانِ الفلسفة)، أو بالإكراه؛ لجعْلِهم يقومون بما هو ضروريٌّ لتحقيقِ سعادتِهم التي بها خلاصُهم.
«آمنَ الفارابيُّ أنّ الفلسفةَ تَبحثُ بشكلٍ طبيعيٍّ عن القوّةِ السياسيّة، وأنّ مهمّةَ الفيلسوفِ تقديمُ الإرشادِ للمدينة. كما اعترف أنّه مِن المستحيلِ إيجادُ هذه المدينة، لكنْ يجبُ بذْلُ الجهدِ لمحاولةِ ذلك».
المراجع:
1- هنا
2- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب: هنا
3- الضاهر، سليمان (مجلة جامعة دمشق) – المجلد 30 – العدد 1 و2 - 2014: ص 439-479.