فلسفة الفن عند بينيدتو كروتشه
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
من الممكن أن تُقدم لنا العلوم الفائدة ولكن الفنون تقدم لنا الجمال، كما أن العلوم تباعد بيننا وبين الفرد والحقيقة وتنقلنا إلى عالم حافل بالمجردات الرياضية الجّافة، بينما الفن يتجه بنا مباشرةً إلى الشخص المعين، والحقيقة الفريدة، أي إلى صورة الفرد. ويوضح “كروتشه” أن أصل الفن يكمن في تكوين الصورة الذّهنية، ويحكمه الخيال والصور الذهنية فقط، فهو لا يُبَوِّبُ الأشياء ولا يحكم عليها بأنها حقيقية أو خيالية، ولا يصفها أو يعرّفها بل يُحسُّ بها ويصوّرها، وبما أن الخيال يسبق الفكر- وهو شرط ضروري له - كانت فاعلية العقل الفنية أي قدرته على تكوين الصور الذهنية أسبق من فاعليته المنطقية، أي التي تكون الأفكار الكلية، فلا يكاد الإنسان يقوى على التخيل حتى يصبح فناناً قبل أن يبلغ المقدرة المنطقية بزمن طويل.
ما هو الجمال؟ إن في الجمال آراء بقدر ما في العالم من رؤوس، وكل مُحبٍ للجمال يعتبر نفسه مرجع في هذا الموضوع فلا مردّ لرأيه، ويعتقد “كروتشه” بأن الجمال هو التكوين العقلي للصورة الذهنية أو لسلسلة منها، يظهر فيها جوهر الشيء المُدرَك، فالجمال يمُتُّ إلى الصورة الباطنية أكثر منه إلى الصورة الخارجية والتي هي تجسيد للصورة الباطنية في طبيعة الحال، إننا نميل إلى التفكير بأن الفرق بيننا وبين شكسبير هو فرق في طريقة التعبير الخارجي فقط وأن لدينا نفس الأفكار التي طافت بذهن شكسبير ولكننا لا نجد الكلمات التي تعبر عنها، لكن هذا وهم باطل، فليس الفرق في قوة إخراج الصورة، بل في المقدرة على تكوين الصورة الباطنية التي تعبر عن الشيء وملاحظتها.
وحتى الإحساس بالجمال تعبير باطني، فدرجة فهمنا أو تقديرنا للعمل الفني تعتمد على قدرتنا في أن نرى الحقيقة المصورة ببصائرنا مباشرة، أي قدرتنا على أن نُكوّن لأنفسنا صورة ذهنية معبّرة. فنحن نعبر عن بصائرنا دائماً عندما نستمتع بالعمل الفني الجميل، فبصيرتي أنا هي التي تكوّن الصورة الذهنية " لهاملت"مثلاً، إذن فسِرُّ الجمال هو الصورة الذهنية المعبرة سواء في الفنان المبدع، أو المتفرج المتأمل لتلك الصور.
فيمكننا القول ببساطة أن الجمال، "تعبير". وبما أنّ الفن هو حالة تعبير عن الشعور الناجم عن الاندماج الكامل بين العواطف المحسوسة من قبل الفنان وبين الصورة التي يُعبر بها عن هذه العاطفة الأمر الذي يجعله قادراً على الدمج التام بين ما يقوم به وبين ما يشعر به ويحسّه، فمثلاً صورة البحر، والماء، والمدرسة، والشارع عند الشخص الطبيعي هي صور ومشاهد عادية قد ألفها، فنراه ينظر إليها بتجرّد تام، كما هي تماماً، بينما يرى الفنّان فيها لوحات تتضمن كل مفاهيم السحر والجمال التي تُخلق منها لوحة يقف الإنسان العادي أمامها مشدوداً مبهوراً.
وباختصار، إن فلسفة الفن عند “كروتشه” هي فلسفة سمو الفكر، ليخدم الذوق العام ويوفّر فرصة استمتاع للمشاهد بحيث يقول أن في هذا المكان سحرٌ وجمال، وفن، ورقي، فنراه متألّقاً في تقديم الوصف والدلالات الموضوعية على أن الصورة والمضمون هما السر وراء نجاح اللوحة المتقنة بجميع أبعادها الفنّية.
تم الاستناد في إعداد هذا المقال إلى المرجع التالي:
قصة الفلسفة ،تأليف ول ديورانت، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، (بيروت: المعارف، الطبعة الأولى،2004).