أنا عالِم، وعائلتي تعاني من ذلك!
منوعات علمية >>>> منوعات
يُعدُّ الاحتفالُ بعيدِ الشّكرِ "Thanksgiving" مناسبةً وطنيّةً مهمّةً في أمريكا وفرصةً للاجتماعِ واللّقاءِ لا تفوّتها عائلة، ويستغلّها الكثيرُ من النّاسِ في السّفرِ للقاءِ أقاربهم وعائلاتهم، لكنّني قبل 10 سنواتٍ فعلتُ العكسَ. المصدر:
إذ وقفتُ خلالَ مائدةِ عيدِ الشّكرِ معتذرًا لعائلتي وأقاربي والفتاةِ الّتي كانت حبيبتي وقتَها، (والّتي أصبحت الآن زوجتي)، ثمَّ قدت السّيّارةَ ساعةً ونصفَ من الزّمنِ متّجهًا نحوَ الجنوبِ وأنا أتذمّرُ كُلَّ الوقتِ. لقد فُرِضَ عليَّ ذلك لأنيّ كنتُ بأمسِِّ الحاجةِ لبضعِ قطراتٍ من دمِ الفئران.
فقد كنتُ أختبرُ دواءً جديدًا لعلاجِ الملاريا على الفئرانِ مراقبًا للطخاتهم الدّمويّةِ مرّتينِ يوميًّا وفقَ ما تقتضيهِ مراقبتهم الصِحيّة، ولم يُخبر أحدٌ طفيلي الملاريا أن يتوقّفَ عن التّكاثر في عطلةِ نهايةِ الأسبوعِ حتّى يأخذَ العالِمُ إجازةً ويحتفلُ مع أسرته. لم تكن تلك المرّةُ الأولى الّتي أقاطع فيها حياتي العائليّةِ من أجلِ شيءٍ في المختبر ولن تكونَ بكلِِّ تأكيدٍ المرّةَ الأخيرةَ.
إذا كنتَ عالِمًا فلن تبدو هذه القِصّةُ غريبةً بالنّسبةِ لك.
فنحن معتادون أن نقضي معظمَ وقتنا منحنين حولَ تجمُّعاتِ الأحياءِ الدّقيقةِ أو جهازِ توليدِ الإلكتروناتِ السّريعةِ أو المِنظار. نفرزُ الأوراقَ على الفطور، ونقرأ المجلّاتِ خلالَ تناولِنا لطعامِ الغداءِ، ونُنجِزُ أعمالَ المختبرِ في منتصفِ اللّيلِ، ونطبعُ طلباتِ المِنَحِ ونحن في السّرير، ولا أعتقدُ أنَّ ذلك يعجبُ عائلاتِنا دائمًا.
تواجه عائلاتُ العلماءِ مجموعةً فريدةً من التّحدّياتِ بالمقارنةِ مع عائلاتِ النّاسِ العاديّين. وإليكم مجموعةٌ من المواقفِ غيرِ اللّائقةِ الّتي قد تحدثُ بينَكَ كعالِمٍ وبينَ مَن تحبُّهم حتّى بدونِ أن تُدركَ ذلك أحياناً:
- تتلاعبُ بمفهومِ يومِ العملِ: تتطلّبُ الكثيرُ من المهنِ العملَ خارجَ أوقاتِ الدّوامِ النّموذجيِّ(من التّاسعةِ حتّى الخامسةِ)، لكنَّ العلماءَ أحيانًا يميلونَ نحو الحماقةِ، ليس بسبب طولِ عملِهم في أيّامِ العملِ بل بسببِ عشوائيّةِ السّاعاتِ الّتي قد يتطلّبُها العملُ أحيانًا، ستقولُ لنفسكِ في السّاعةِ الثّالثةِ صباحًا: "ليس بالأمرِ الهامِّ، أنا فقط بحاجةٍ لعشرِ دقائقَ إضافيّة"، ومن ثمَّ ستُخبر نفسك بذلكَ مرّةً أخرى في الخامسةِ صباحًا.
إنَّ برتوكولاتِ العملِ في المخبرِ ليست بالمرِنة، فإذا كان عليكَ مثلًا أن تُسخّنَ عيّنةً لثلاثينَ ثانيةٍ، ولكن بعدَ أن تقومَ بعمليّةِ التّسخينِ قد تتغيّرُ الفترةُ الزّمنيّةِ الّتي تحتاجُها لفعلِ مثلِ هذهِ البروتوكولاتِ.
-تتذكّرُ حقائقَ علميّةً بسهولةٍ في الوقتِ الّذي تعاني فيه من عجزٍ في تذكّرِ المعلوماتِ المُفيدةِ في المنزلِ.
فعندما تقولُ لي زوجتي: لماذا لا يوجدُ حليب؟ ألم تقل أنّكَ ذاهبٌ لتُحضرِِ الحليبَ؟ أُفكّرُ أنا بالتّالي: يحتوي الحليبُ بروتينَ الزّلالِ أو ألبومِين اللّبن الّذي تتمثّلُ وحيداته ذاتيًّا في أنابيبَ بالغةِ الصّغَرِ(نانو) بعد الإماهةِ الجزئيّةِ.
- عندما شعرتُ بالقلقِ حولَ التّأثيرِ البالغِ الّذي تملكه مهنَتي العلميّةُ على عائلتي، أرسلتُ لزوجتي رسالةً أسألُها فيها عن نواحي حياتي العلميّةِ الّتي كان عليها أن تتكيّفَ معها (وهذا ما جعلَني أُدركُ أنَّ مشكلتي الأولى هي أنّني راسلتُها من العملِ بدلًا من محاولةِ إيجادِ وقتٍ لمحادثةٍ معها وجهًا لوجه). وكان ردُّها على رسالتي: "أنت تُحبُّ صانعي اللُّصاقات".لم يكن هذا الجواب الّذي أنتظره، لكن تبيّن أنَّ هذه الرّسالةَ لم تكن إلّا البدايةَ، فسرعانَ ما أوشَكَ هاتفي المحمولُ أن ينفجرَ من كثرةِ الرّسائلِ الواردةِ من مثل: "أنت تحتفظُ بالكثيرِ من الدّفاتِرِ الثّقيلةِ وغيرِ المُهمِّةِ من جلساتِكَ العلميّةِ، سنحتاجُ لنقلِهم من منزلٍ لمنزلٍ ونضعهم في حقيبةِ كتبٍ كبيرةٍ ولن تراهم مرّةً أخرى".
أنا أتقبّلُ النّقدَ، فقد انتقلنا مؤخّرًا لمنزلٍ جديدٍ ولكن بطريقةٍ ما انتقلت معنا نُسخةٌ عام 1995 من كتابِ"مبادئ الكيمياء" مع بضعةِ عشراتٍ من الكُتُبِ المماثلةِ له بالوزنِ والقِدم. أنا لا أحتاجُ هذه الكتب، لكنَّ التّخلُّصَ منهم يبدو وكأنّه إقرارٌ منّي بأنّني أهدرتُ شهورًا من حياتي أدرسُ الكيمياءَ العضويّةَ والجبرَ الخطيَّ دونَ فائدةٍ، ولم يكن هذا ممكنًا، سأستخدمهم يومًا ما بكلِّ تأكيدٍ.
وتوالت الرّسائلُ، عندها فقط أدركتُ أنّني كنتُ آملُ أن يكونَ ردُّها على رسالتي الأولى: "أنتَ زوجٌ رائعٌ"، ولكنّني تعلّمتُ الآن درسًا مُهمًّا وهوَ ألّا أسأَل شريكتي أن تَعُدَّ أخطائي.
عندما كانت زوجتي طفلةً، خطّطَ والدُها العالِمُ لإجازةٍ يستغلُّها في بحثهِ حولَ الفُطُورِ، وانتهت نزهةُ العائلةِ بينَ العَفَنِ في قلعةٍ مهجورةٍ صنّفَ فيها الوالد الفُطُورَ المتواجدةَ فيها بكثرةٍ.
وعلى الرّغمِ من طفولتها الممتلئةِ بالفُطورِ، قرَّرت الفتاةُ -الّتي كانت حبيبتي وقتها وزوجتي الآنَ وآمل ألّا تكونَ طليقتي في المستقبل- أن تتزوّجَ عالِماً، لذا فإمّا أنَّ روعةَ العالِمِ تتغلَّبُ على هفواتِهِ، أو أنَّ قدرَتَها على التّفكيرِ المنطقيِّ قد تأثّرت بالفُطُورِ الّتي عرّضها لها والدُها في طفولَتِها.
وفي دفاعي عن نفسي، أقولُ بأنَّ نمطَ حياةِ العَالِمِ قد يكونُ سخيفًا أحيانًا لأنَّ مهنتَه شديدةُ الأهميّةِ بالنّسبةِ له، بل إنّها أكثرُ من مجرّدِ مهنةٍ، إنَّها شيءٌ قرّرَ أنَّهُ يستحقُّ أن يكرِّسَ في سبيلهِ أملَهُ وجهدَهُ. فالعلماءُ شغوفينَ ومتحفِّزينَ ولهم هدفُهم في الحياةِ، فهم يؤمنونَ بأهميّةِ ما يقومونَ به رغمَ أنَّ الوقتَ غيرَ مناسبٍ لذلكَ في معظمِ الأحيانِ، يُحبُّونَ الدِّقّةَ، ويحبُّونَ الأسئلةِ، ويحبّونَ الأجوبةِ، ويحبّونَ المعرفةِ.