المحاكاة عند أرسطو
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
المحاكاة مصطلحٌ ميتافيزيقيٌّ يونانيُّ الأصل يدلّ على المماثلة والمشابهة في الفعل والقول، ومنه قولُ أرسطو: "الفنُّ محاكاةُ الطّبيعة".
والمحاكاة أيضاً التّقليدُ اللّاشعوريّ الّذي يحمل الإنسان على الاتّصاف بصفات الّذين يعيش معهم، كتقليد حركاتهم وسلوكهم واقتباس لهجاتهم وأفكارهم.
وممّا يثير الانتباه أنّ الكلمةَ محاكاةً استحوذت على أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من تفكير الفلاسفة اليونانيّين خصوصاً أفلاطونَ وأرسطو في ميدان الفنّ.
المحاكاة عند أرسطو:
ذهب أرسطو إلى أنّ الفنّ محاكاةٌ، وعدَّ الشّعر محاكاةً للطّبيعة، ولكن ليست الطّبيعةُ محاكاةً لعالِمٍ عقليٍّ، بل إنّما يحاكي الشّاعرُ ما يمكن أن يكون بالضّرورة أو بالاحتمال لا ما هو كائنٌ. وفي هذا المعنى يقول: "لمّا كان الشّاعر مُحاكياً شأنُه شأنُ الرّسّام، وكلّ فنّانٍ يصنع الصّور ينبغي عليه بالضّرورة أن يلتزمَ إحدى طرائقِ المحاكاة الثّلاث: فإمّا أن يصوّر الأشياء كما كانت أو كما هي في الواقع، أو أن يصوّرها كما يصفها النّاس وتبدو عليه، أو أن يصوّرها كما يجب أن تكون، والشّاعرُ إنّما يصوّرها بالقول مستخدماً الكلمةَ الغريبةَ والمجاز وكثيراً من التّبديلات اللّغوية الّتي أجزناها للشّعراء".
ويُرجع أرسطو الفنونَ كافّةً بما فيها الشّعرُ إلى أصلٍ فلسفيٍّ واحدٍ هو محاكاةُ الحياةِ الطّبيعيةَ، فالطّبيعة في نظره ناقصةٌ والفنّ يُكمِلُ ما فيها من نقصٍ ويُسهِمُ في كشف أسرارِها.
والمحاكاة عند أرسطو لا تعني النّقلَ الحرفيَّ للطّبيعة، فالفنّ ليس مجرّد مرآةٍ تعكس مظاهرَ الأشياءِ بصورةٍ آليّةٍ خاليةٍ من الإبداع، وأشدُّ ما أكّد عليه ضرورةُ وجودِ صلةٍ وشَبَهٍ بين الصّورة الّتي يُنتجها الفنّانُ وبين الأصلِ الّذي حاكاه.
فليس الفنُّ في نظر أرسطو محاكاةَ الطّبيعةِ محاكاةَ الصّدى، أو تمثيلَها تمثيلَ المرآةِ، أو نقلَها نقلَ الآلةِ، فما ذلك إلّا النّتيجةُ الّتي تنفي الذّكاءَ، والعبوديّةُ الّتي تسلُبُ القوّةَ. إنّما عظمةُ الفنّ أن يفوقَ الطّبيعةَ.
عارض أرسطو فكرةَ الإلهامِ والوحيِ في نَسْجِ الشِّعر، وعدَّ منشأ الشِّعرِ غريزةَ المحاكاة إذ إنّ الإنسان برأيه مفطورٌ على المحاكاة، فبها يكون التّعلُّم ومنها تنشأ اللّذّة.
ويُرجِع أصلَ الشّعر إلى سببينِ طبيعيَّينِ:
أوّلُهما أنّ المحاكاة ظاهرةٌ طبيعيّةٌ وفطريّةٌ لدى الإنسان.
وثانيهما شعورٌ بمتعة المحاكاة ولذّتها ما يصل بالإنسان إلى تعلّم المعرفة.
وبناءً على ذلك يمكن استنتاج أنّ المحاكاةَ معرفةٌ عند أرسطو، فهي بما تورِثُه من لذّةٍ أمرٌ فطريٌّ أخذَ يرتقي حتّى ولّدَ الشّعرَ ارتجالاً، وذلك قبل انقسامه الى مأساةٍ وملهاةٍ.
ويجدُرُ بالذِّكر هنا أنّ إعراض أرسطو عن الشّعر الغنائيّ الّذي يمثّل طفولة الشّعر كان نتيجةً لعدم انسجام ذلك النّوع من الشّعر مع مبدئه القائل: "إنْ كانتِ المحاكاةُ جوهرَ الشّعرِ، فإنّ الفعلَ جوهرُ المحاكاةِ". وهكذا نجِدُ أنّ مفهوم المحاكاة عند أرسطو يختلف عنه عندَ أفلاطونَ اختلافاً جوهريّاً نابعاً من اختلاف النّظرة الفلسفيّة، إذ كان أفلاطونُ ذا نزعةٍ صوفيّةٍ غائيّةٍ، بينما كان أرسطو ذا نزعةٍ عمليّةٍ تجريبيّةٍ.
وللمحاكاة عند أرسطو نواحٍ ثلاثٌ: الوسيلةُ والموضوعُ والطّريقةُ. فأمّا الوسيلة فهي الأداة الّتي يستعملها الفنّان، وهي بوصفٍ أدقَّ الوسيطُ، ومثالها اللّغة لدى الشّاعرِ ولكنْ بعد أنْ بثَّ فيها الإيقاعَ والانتظامَ لتصبحَ وسيطاً جمالياً، وأمّا الموضوع فهو المادّةُ المحكيّةُ أيِ المحاكاةُ الّتي تجسِّد أعمالَ النّاس، وأمّا الطّريقة فهي النّوع الأدبيّ أو الفنّيّ أيْ أسلوبُ المحاكاةِ.
وأخيراً نجد أنّ أرسطو جعل الشّعرَ صديقاً للفلسفة، والفعلَ جوهرَ المحاكاةِ، فارتقى بها من مرتبة تقليدِ الطّبيعةِ إلى مرتبة الإبداع الحيِّ، فجعل الشّعرَ بذلك أفضلَ تعبيرٍ عن مكوّنات الطّبيعة الإنسانيّة.
المصادر:
1- المعجم الفلسفي: الدكتور جميل صليبي الجزء الثاني.
2- فن الشعر أرسطو: ترجمة الدكتور ابراهيم حمادة.
3- قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث: الدكتور محمد العشماوي.