تأثير المهنة في الصحة النفسية
علم النفس >>>> الصحة النفسية
وقد بيّنتْ إحصائيّةٌ أجرتها وزارة الصحة واتحاد الصناعات البريطاني أن 13-35 % من العمال سيعانون من بعض المشكلات والاضطرابات النفسية والعقلية في فترةٍ ما من حياتِهم المهنية، وفي إحصائيةٍ مشابهة في الولاياتِ المتحدة الأمريكية؛ قُدّرَ أن 40 مليون شخصٍ يعانون من أحد أشكال الاضطرابات النفسية، وأنّ 4-5 مليون منهم يعانون اضطرابًا خطيرًا متقدّمًا، وأنّ الاكتئاب أكثر هذه الاضطراباتِ شيوعًا بين العمال؛ ما يؤثّر على الإنتاجية، ويُنقص عدد أيام العمل بسبب انقطاع هؤلاء العمال عن العمل و تغيّبهم المستمر.
ولكن كيف يؤثر العمل في ظهور هذه الاضطرابات ويطورها بين العمال؟
لا يخفى على أحد التطور التكنولوجي الحاصل في العالم خلال العقدين الماضيين، والذي أدّى إلى تطور آلياتِ الإنتاج والاعتماد على الآلة وتكنولوجيا المعلومات؛ ما خفّض العمالة وفرض التّوظيف المشروط، وفاقم بدوره العبء الملقى على العمال، وعرّضهم لضغط العمل وإجهاده، وتهملُ معظم الشّركات الصَّحة النفسية لعامليها؛ إذ يَنصبُّ اهتمامها على التأمين الصحي الجسدي فحسب، ويكوّن العمل جوهر حياتنا؛ إذ إننا نقضي ما يقارب ثلث وقتنا في العمل، فهو يزوّدنا بسبلِ عيشنا الأساسيّة وبهويّتنا الشخصية التي نعرّف فيها عن أنفسنا وما نحتاجه من شعورٍ بالمكانة الاجتماعية وتقدير الذات، وهو بذلك يؤثر في صحتنا النفسية.
ولتكون بيئةُ العملِ ملائمةً لصحةٍ نفسيةٍ جيدةٍ؛ يجب أن تتوافر فيها بعضُ الشروط كالوقتِ المحدد للعمل، فعدم تحديده يمكن أن يُؤدّي إلى عبء نفسيّ كبير، وينبغي أن يتيح العمل التواصل الاجتماعي بين العمال؛ فيبني علاقةً يسودها التَّعاون والعمل الجماعي، وعليه أن يزوّد بالهوية الاجتماعية المرغوبة؛ فعملُنا هويتُنا التي تسِمنا، ويجب على العمل أن يتضمن نشاطاتٍ منتظمةٍ تُساهم في تنظيمِ الفرد لحياته اليومية، وأن يكون آمناً وأن يسمح بمستوىً معيّنٍ من التحكّم والتأثير فيما نفعل وكيف نفعله، وأن يمنحنا شعورًا بأهمية الذات.
وتؤكد دراسةٌ نُشِرت في عام 2011 في صحيفة Occupational & Environmental Medicine تأثيرَ طبيعة ونوعية العمل وارتباطها الوثيق بصحتنا النفسية وبتراجعِ الإصابةِ باضطراباتٍ كالاكتئاب والقلق، وإنّ العلاقات الإيجابية مع زملاء العمل والرؤساء تساعد على زيادةِ الرضا الاجتماعي وتقلّل من مشاعر العزلة الاجتماعية؛ ما ينعكسُ ايجاباً على المعافاة الجسدية والنفسية، وإنّ الضغط والتوتر الناجمين عن العمل يُفاقمان و يطوّران بعضَ الاضطرابات كالقلق والاكتئاب والإدمان على العقاقير والكحول، وقد يؤثّرُ في علاقتنا بالأهل والأصدقاء أو حتى يدمرها، فإذا شعرت بعدم القدرة على التحكم بالتوتر والضغط الذي تعيشه في العمل؛ لا تنقُله إلى حياتك معهم.
وإنّ العمل الذي لا يمنحك الدخل العادل والمساوي للآخرين يؤثر سلبًا في صحتك النفسية أيضًا؛ لأنه يزيدُ من إجهادك وينقص تقديرك لذاتك ولما تفعل، وإنّ أهم ما خلصت إليه هذه الدراسة أنّ الصحة النفسية للعاطلين عن العمل إمَّا كانت مساويةً وإمّا متفوقةً على صحة أولئك الذين يعملون في ظروف عملٍ سيئة، وإنّ انتقال الخاضعين للدراسة من حالة البطالة إلى العمل في بيئة جيدة حسّن صحتهم النفسية، وإنّ انتقال مجموعة أخرى إلى عمل ذي بيئة سيئة قد فاقم حالتهم النفسية السيئة.
ووجدتْ دراسةٌ نُشرت في عام 1997 في صحيفة Industrial Health أن العوامل المرتبطة بضغط العمل كالمسؤولية الكبيرة والعلاقة السيئة مع المرؤوسين وعدم السماح بارتكاب الأخطاء وعدم القدرة على مواكبة التطور التكنولوجي الحاصل في العمل، كلها تؤدي إلى تراجع الصحة النفسية والعافية.
ومن الدراسات السابقة التي تؤكد جميعها على أهمية الإجهاد والتوتر لدورهما في تراجع الصحة النفسية؛ نجد أنّ نوع المهنة قد يؤدي دوراّ في ذلك؛ إذ تتطلب بعض المهن جهدًا يورثُ ضغطًا نفسيًّا، وهو ما تؤكده دراسةٌ نُشرت في صحيفة Social Psychiatry and Psychiatric Epidemiology، والتي صنّفت المهن والأعمال العالية الخطورة لإصابة أصحابها بالاكتئاب، وقد ترأس هذه القائمة سائقو النقل العام، وجاء عمال إصلاح السيارات أخيرًا، فنجد أنَّه كلما تطلّب العمل تفاعلًا مع عامة الناس والعملاء ارتفعتْ نسبةُ خطورةِ الإصابة بالاكتئاب، فتتطلب هذه الأعمال من العامل التحكم الزائد بمشاعره.
ولتفترضْ أنك مضيف طيران ويتطلب عملك الابتسامَ صباحًا أيًّا كانت مشاعرك لتقول "صباح الخير" لـ 465 راكب ومسافر، ويدخل في هذا التصنيف المؤسسات الخدمية والمؤسسات الوطنية التي تعاني من الصراعات الشخصية وتواجه أناسًا يصعب إرضاؤهم، فترتفع نسبةُ الإصابة بالاكتئاب بين عامليها.
وختاماً؛ الرضا الوظيفي يعني أن تحب ما تعمل وأن تجد نفسك فيه، تقول Diane Coutu مديرة الاتصالات مع الزبائن في شركة استشارية في كامبريدج: "بصفتي شخصًا عانى -وبصمتٍ أحياناً- من مرضٍ عقلي أكثر من ثلاثين عاماً؛ أستطيع التحدث عن كيفية إدارةِ المرض النفسي والتعامل معه، فقد عملت مع شركات استشارية عالمية وشركات نشر في كل من أوروبا وأمريكا...". وتتابع: "أنا واحدةٌ من القلائل المحظوظين، لأنه وفقًا للتحالف الوطني للأمراض النفسية والعقلية يعود قرابة 20-40% فقط من المصابين بهذه الأمراض إلى العمل.". وتقول: "حالتي كحالة الكثير من المصابين بأمراضِ نفسية، فأنا لا أجيدُ السيطرة على الضغط والتوتر؛ فقد بدأتُ العمل كمراسلة أجنبية لصحيفة The Wall Street Journal Europe and Time ولكنّني بعد سنوات من جلسات العلاج النفسي استبدلت حياتي في العمل كمديرة للاتصالات مع الزبائن في شركة استشارية بتلك الحياة، هل فقدتُ الحماس للعمل كمراسلة أجنبية؟ أحيانًا! طبعًا أنا أسعد الآن؛ إذ ساعدني العلاج على ملامسة توقعاتي الشخصية، لقد نضجت في عيادة الطبيب النفسي، وأعمل اليوم في بيئةٍ أكثر مرونة والمواعيد النهائية أقلّ تكرارًا، وفيما يتعلق بنقاط ضعفي؛ فإن هذا الخيار مناسبٌ لي ويلائمني أكثر، ولكني احتجتُ إلى علاجٍ لتقبّله كأمرٍ أكثر من ضروري.".
وإنّ الخطوة الأولى في اتجاه حلّ المشكلة؛ تكمن في الاعتراف بوجودها ومناقشتها؛ إذ يشكل العمل البيئة الأنسب لاكتشاف هذه الاضطرابات وزيادة الوعي حولها وإدراكِ أنها مسؤولية كلٍّ من أنظمة الدعم الاجتماعي ومختصي الصحة النفسية وحتى الموظفين أنفسهم، فهم من يتحكم بالظروف المسببة، وبتقصير مدة العلاج والتأهيل اللازمة للعودة من جديد إلى العمل، وإنّ العجز المرافق لهذه الأمراض لا يعطي العذر لأحد لرفض هؤلاء، فلهم كامل الحقّ بالحصول على فرصِ عملٍ عادلة وفقاً لمهاراتهم، ويُفترض أن يكون هذا شرطاً مسبقاً للوطنية الحقة، وإنّ هذه الخطوة ستساهم في منع الأمراض وتفاقمها من خلال تقبل الأمر علنيًّا بسبب خوف أصحابها من البوح بمشكلتهم خوفًا من وصمة العار التي سترافقهم مع خسارتهم لوظائفهم.
المصدر:
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا