«اللاإنجابية - Anti-Natalism»؛ وجهة نظرٍ أخلاقية!
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
أثار مفهوم «مناهَضة الإنجاب» اهتمامَ الفلاسفة في العقود الأخيرة بسبب الادعاءات التي تعدُّه إشكاليًا من الناحية الأخلاقية، ويبحث هذا المفهوم في كيفية الحُكم على قيمة الحياة وتقييم نوعها ((الجديرة بأن تُعاش)). ويشير مفهوم «مناهَضة الإنجاب أو اللاإنجابية - Anti-Natalism» إلى الرأي القائل بأن مفهوم الإنجاب والتكاثر خاطئٌ إلى حدٍّ ما، وقبل منتصف السبعينات من القرن الماضي؛ اتفق الفلاسفة عمومًا على أنّ الحياة الجديرة بالعيش هي تلك التي تحتوي على عددٍ أكبرَ من المسرَّات مقارنةً بالآلام، بينما رفض مناهضو الإنجاب المعاصرون أو (اللاإنجابيون - Anti-Natalists) هذه المُقاربَة لفهم فحوى الحياة، مؤكدين أن تقييمَ ما إذا كانت الحياة جديرةً بالعيش لا يمكن أن يكون مجرد جمعٍ وموازنةٍ بين مستوى الإيجابية والسلبية في هذه الحياة، بينما يُصرِّح بعضهم أن حادثةً سيئةً واحدةً -إذا كانت فادحةً بما يكفي- كافيةٌ لأن تجعل الحياة لا تستحق العيش، بغض النظر عن مقدار الخير المعروض في مكانٍ أو زمانٍ آخر في هذه الحياة (1).
"ديفيد بيناتار".. الأب الروحي للـ«اللاإنجابية»
يُعتبَرُ "ديفيد بيناتار - David Benatar 1966-Present" الفيلسوفَ الجنوب أفريقي أحد أكثر الفلاسفة المناهِضين للإنجاب تأثيرا، وقد نشر أول بيانٍ له ضد الإنجاب في عام 1997، ثم تبعه بكتابٍ للدفاع عن نظرياته في عام 2006، وعُدَّ مذْ ذاك أبًا روحيًا لأغلب مناهِضي الإنجاب (1).
تُدعَم «اللاإنجابية» بوِجهتين من المبررات، ويدور المبرر الأول حول (الخيرية للبشر - Philanthropic Anti-Natalism) وهي الاعتقاد بأنه من غير الأخلاقي للبشر أن ينجبوا أطفالًا سيعانون بطريقةٍ ما (2)، ويقدم "بيناتار" عنها حُجَّتين خاصتين؛ الأولى تطرفيةٌ ترى أنه إن كان من المتوقع أن يعاني الشخص الذي جاء للحياة ولو بمقدار وخزة إبرة؛ فإن الإنجاب عندها سيكون فعلًا خاطئًا من المنطق العقلاني، بغض النظر عن مقدار الخير الذي سيحصل عليه هذا الشخص في حياته، أما الحجة الثانية والأكثر اعتدالًا فتقول إنه حتى بالنظر إلى الطريقة الأكثر شيوعًا لتقييم جدوى الحياة -وهي موازنة الخير والشر-؛ فإن المقدار المتوقع للسعادة والخير ليس مرتفعًا بدرجةٍ كافيةٍ عند مقارنته بالكمية المتوقعة من الأحداث والأمور السيئة (1)، ويعتقد "ديفيد بيناتار" أن هناك دائمًا سببٌ أخلاقيٌّ ضد إنجاب الأطفال، هذا المنطق قائمٌ على مصالح هذا الطفل الخاصة في المقام الأول، ويُعدُّ المفهوم ساريًا حتى إذا تفوَّقت اللحظات الجيدة في حياة الطفل على اللحظات السيئة، وبهذا يؤمن أن هناك دائمًا سببٌ أخلاقيٌّ يرتكز على مصالح الطفل، ضد إنجاب الطفل نفسه (3).
وعلى تضاد المبرر الأول؛ ترى وجهة التبرير الثانية (اللاإنجابية الكارهة للبشر - Misanthropic Anti-Natalism) أنه من غير الأخلاقي إنجاب أطفالٍ سيسبِّبون ضررًا للكائنات الحية البشرية أو غير البشرية، وبكل تأكيد ضررًا للبيئة؛ مثل تسبُّبهم بالتلوث والتغير المناخي والزيادة السكانية والأمراض وزيادة استهلاك المنتجات الحيوانية مما يؤدي إلى إساءة معاملتها وربما قتلها. وقد بدأ "بيناتار" بدعم هذه الوجهة حديثا، ولكونها عبَّرت عن مخاوف العالم الحقيقية الحالية؛ فقد اتُّخِذَ اللاإنجابُ حلًا تطبيقيًا لهذه المشكلات سواءً قلقًا على الأطفال من هذه المشكلات مثل الأمراض والتغير المناخي؛ أو لأن هؤلاء البشر الصغار سيدمِّرون البيئة (2).
«اللاعقلانية» سببٌ للإنجاب!
ويضيف "بيناتار" على ذلك بأن الناس لديهم استعدادٌ تطوريٌّ لرؤية الحياة أفضل مما هي عليه بالفعل؛ أي أنهم (منحازون للتفاؤل - Optimism Bias) ولديهم توقعاتٌ غير واقعيةٍ وغير عقلانيةٍ بأن حياتهم وحياة الجيل القادم ستصبح أفضل؛ وبناءً على ذلك يستمرون في الإنجاب، وإن فكرة وجود دافعٍ لاعقلانيٍّ يدفع الناس إلى التكاثر تتشابه مع رؤية الفيلسوف الألماني "آرثر شوبنهاور - Arthur Schopenhauer 1788-1860" الذي يرى بأن الحياة حافلةٌ بالألم والمعاناة، وأي شيءٍ غير ذلك هو مجرد استثناءٍ لهذه القاعدة، وعلى الرغم من ذلك فإن البشر يستمرون بالإنجاب؛ ويرى أن السبب وراء ذلك هو الدوافع الجنسية التي بدونها سيتوقف الناس عن الإنجاب تمامًا (أي أن الإنجاب وراءه دوافعُ غير عقلانية) ومن ثمَّ إذا أصبح البشر عقلانيون فستنتهي دائرة التكاثر (2).
(حُجة عدم التماثل - Asymmetry Argument)
يقدّم "بيناتار" (حُجة عدم التماثل - Asymmetry Argument) التي وُصِفَت بالتطرف لأنها تتطرق للاختلافات في الطريقة التي نُقيِّم بها الظروفَ الحياتية المرغوب وغير المرغوب فيها اعتمادًا على ما إذا كنا نتعامل مع شخصٍ موجودٍ بالفعل أو مع شخصٍ يمكن ألَّا يكون موجودًا أي لم يُنجَب. وبحسب "بيناتار"؛ فإن ((غياب الألم خير)) أي أفضل من وجوده، هذا بالنسبة لمن كان يمكن أن يكون موجودًا ولكنه في الحقيقة لن يُنجَبَ أبدًا، ولكنه في المقابل يعدُّ أن ((غياب الخير ليس سيئا)) بمعنى أن غيابه ليس أسوأ من وجوده، إلا إذا كان هناك شخصٌ موجودٌ بالفعل ليُحرَم منه (1,3).
وتتألف حجته من أربع قواعد تنقسم إلى عنصرين هما (المتعة) أو (الألم)، ويُقيَّم هذان العنصران في حالين اثنين، في حال وجود الشخص س أو في حال عدم وجوده كالآتي:
Image: SYR-Res
وبتلخيص ما سبق؛ فإن وجود الألم سيئٌ والأفضل ألَّا يوجد. أما فيما يتعلق بالسعادة والخير في حين أنه من الجيد أن يحصل المرء عليهما -إن كان موجودا-؛ فإن انعدام السعادة ليس بشيءٍ أسوأ إن لم يكن هذا الشخص موجودا، بل لا يُعدُّ مهمًا إذا لم يكن هناك شخصٌ يُحرَم منه؛ ومن ثمَّ فإن عدم الوجود أفضل من الوجود لتسبُّب الوجود بالضرر مقارنةً بعدم الوجود. وبما أن الإنسان سيُلحِق الأذى بالأشخاص الذين سينجبهم من أجل المنفعة الشخصية (كونه والدًا بيولوجيا)؛ فمن الخطأ الإنجاب (1).
يتوسع "بيناتار" في كتابه ((من الأفضل ألا تكون أبدا: ضرر الوجود - Better Never to Have Been: The Harm of Coming into Existence)) في دفاعه عن أطروحته بإضافة جوانب إضافيةٍ لنظريته. يُمكن تلخيص النقاط الأساسية لأهم حُججه كالآتي:
أهم الاعتراضات على طروحات "بيناتار"
إن الحجة عن تقييم الحياة من عدمها كانت فعلًا مثيرةً لاهتمام العديد من الفلاسفة، كما ذُكر سابقا؛ يميِّز "بيناتار" بين غياب المتعة لدى شخصٍ موجودٍ وغياب المتعة لدى شخصٍ غير موجود. ومن هنا بدأ "بيناتار" بالتحليل لنظريته، عادًا أن غياب المتعة لدى شخصٍ لم يُخلَق ليس أمرًا سيئا، وبذلك وبتحليل السيناريوهات المذكورة أعلاه؛ فإن إنجاب شخصٍ هو فعلٌ خاطئ (1)، ولكن منتقديه بدؤوا الانتقاد من هذه النقطة بالذات؛ فيذهبون إلى أنه في حال وجود الإنسان؛ فإن المتعة أو السعادة أفضل من غيابها وهذا صحيح، ولكن المشكلة يجب تحليلها كما يأتي: إن غياب المتعة لدى شخصٍ موجودٍ له قيمةٌ حقيقيةٌ وهي الصفر، ولكن غياب المتعة لدى شخصٍ غير موجودٍ ليس له أية قيمةٍ حقيقيةٍ أو فعليةٍ على الإطلاق ولا حتى صفر؛ وبذلك لا يمكن مقارنتهما بطريقةٍ رياضيةٍ أو حتى باستخدام مصطلحاتٍ (كأفضل أو أسوأ) (5).
ويعتقد بعضهم أن بعض وجهات نظر "بيناتار" مشكوكٌ فيها لافتقار طرحه للتعريفات الواضحة لكل ما يُطلَق عليه صفة الخير والشر. إضافةً إلى ذلك؛ فإن وجهة نظره بأن الحياة ضررٌ عمومًا قابلةٌ للنقاش، لأن ادَّعاءه بشأن ضرر الحياة يدعو إلى الانتقاد لأنه لا يُراعي حقيقة أن لكل شخصٍ وجهة نظره الخاصة عن قيمة الحياة (6)، بينما لخَّص الباحث "بين برادلي - Ben Bradley" انتقاداته في غياب التعريفات اللازمة للخير والشر في طرح "بيناتار" إضافةً إلى استحالة المقارنة بين الحالات قيميا، وختم تحليله بأنه من الممكن استنتاج أن الوجود أفضل من ناحيةٍ ما وأسوأ من ناحيةٍ أخرى من عدم الوجود. وهكذا؛ ما دام مقدار الخير في الحياة يفوق مقدار الشر الجوهري، فإن الحياة تستحق أن تبدأ وأن الوجود ليس ضارًا دائما (5).
وختاما؛ يقول فيلسوف العدم الروماني "إميل سيوران - Emil Cioran 1911- 1995" في كتابه ((مثالب الولادة - The Trouble with Being Born)): "ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻧﺘﺼﻮَّﺭ ﻓﻲ ﺳﻜﻴﻨﺔٍ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﺃﻥَّ ﻣﻦ ﺍﻷﻓﻀﻞ ﻟﻮ ﺃﻥَّ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ "ﻧﺤﻦ" ﻟﻢ ﺗﺤﺪﺙ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻃﻼﻕ (7)."
مصدر الخبر في مقدمة الفيسبوك:
3. Mclean B. Brian McLean on Anti-Natalism [Internet]. The Ohio State University . Department of Philosophy; 2015. Available from: هنا
4. Bradley B. Benatar and the Logic of Betterness [Internet]. Academia . Journal of Ethics and Social Philosophy; 2010. Available from: هنا
5. Rossolatos G. On the Discursive Appropriation of the Antinatalist Ideology in Social Media [Internet]. NSUWorks Nova Southeastern University. The Qualitative Report; 2019. Available from: هنا
6. UDONO K. The Harm of Being Brought into Existence A Critical Examination of David Benatar’s Anti-Natalist Argument [Internet]. The Japanese Association for Philosophical and Ethical Researches in Medicine. Journal of Philosophy and Ethics in Health Care and Medicine, No. 12; 2018. Available from: هنا