ما الفرق بين العلم والعلم الزائف؟
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم المنطق والأبستمولوجيا
وتطورت المنهجية العلمية (Scientific Method) مع مرور الوقت، واختلفت تفاصيل ممارستها بين العلماء وبين المجالات الأكاديمية المختلفة، لكن الهيكل الأساسي للعلم كان ثابتًا على الرغم من اختلاف الأمكنة والأزمنة، وتخبرنا فلسفة العلم (Epistemology) عن أفضل طريقة للتفكير بُغية التأكد قدر الإمكان من ادعاءات معينة، بناء على أدلة تَتحدد دقتها وفق المنهجية العلمية (1).
وعندما لا يتبع مجال ما المنهجية العلمية كاملة في الوصول إلى المعرفة، يكون عندها علمًا زائفًا، ويُفيد التمييز بين العلم والعلم الزائف (Pseudoscience) بجانبين: نظري وعملي، إذ تسهم مسألة التمييز نظريًّا في فلسفة العلم بالطريقة نفسها التي تسهم بها دراسة المغالطات المنطقية في معرفتنا للمنطق اللاصوري والحُجج المنطقية، أما عمليًّا فإن التمييز بين العلم والعلم الزائف مهم لتوجيه القرار في كل من الحياة الخاصة والعامة (2).
ولأن العلم هو مصدر المعرفة الأكثر موثوقية لدينا في كثير من المجالات -إضافة إلى مكانته العالية في مجتمعاتنا اليوم- فإن مسألة ترسيم الحدود أصبحت حاجة ملحة، لأنه توجد عديدًا من المحاولات الشائعة التي تبالغ في الحالة العلمية لمختلِف الادعاءات والتعليمات والمنتجات، في مجالات حياتية عديدة، مثل علوم المناخ والعناية الصحية والطب (2).
وقد بدأ استخدام مصطلح العلم الزائف (Pseudoscientia) في القرن السابع عشر، في محاولة للتمييز بين المعتقدات الغيبية والأفكار التجريبية، في حين استُخدمت كلمة علم (Science) للدلالة على علوم الطبيعة وما شابهها من علوم الاجتماع والسياسة خلافًا للتاريخ والآداب، وبالتأكيد فإن معايير إطلاق مصطلح علم على مجال ما قد تطورت عبر التاريخ، فأصبح يعتمد على موضوع الدراسة وعلى مواصفاته الإبستيمية (2).
وتشكِّل العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانيات سعيًا بشريًّا منظمًا ونقديًّا لتحقيق أفضل فهم للبشر والمجتمع والطبيعة، وبدأت هذه المجالات باتباع طريقة موحدة في النصف الثاني من القرن العشرين، عن طريق علوم الفلك والأحياء والكيمياء الحيوية والكمية وعلم الأعصاب ونظرية الألعاب والبيئة، وازداد الترابط فيما بينها ومع مجالات أخرى، مثل التاريخ عندما بدأ يعتمد على المُكتشفات الأثرية (2).
ونستطيع تمثيل شجرة المعارف اليوم بغصنين؛ يحمل أحدهما العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانيات، في حين يحمل الغصن الآخر معتقدات وحركات معرفية لا تتفق طرائقها ونتائجها مع المنهجية العلمية، مثل الصحافة وتحقيقات الجرائم وطرائق الزراعة التقليدية، ويُصنف بعضها ضمن العلوم الزائفة، مثل البرمجة اللغوية العصبية والأبراج (2).
ويمتاز العلم امتيازًا أساسيًّا بالتفكير النقدي والعقلاني، خلافًا للتفكير الشخصي الذي يُبنى على الأفكار الذاتية المقبولة في بيئة خالية من النقد الجماعي، مثل ممارسة ألعاب الخفة، في حين يرفض الفيلسوف البريطاني كارل بوبر (Karl Popper 1902-1994) القدرة على التحقق من المعلومات معيارًا للنظرية العلمية، ويقترح القدرة على التخطيء (Falsification) لتمييز العلم التجريبي عن العلم الزائف والميتافيزيقا والأساطير (3،2).
ويعتمد التخطيء على احتمال أن تخطئ النظرية العلمية في تنبؤاتها المستقبلية، مما يستدعي تعديلها وتطويرها أو رفضها، وبذلك تكون النظرية العلمية قابلة دومًا للاختبار ضد نظريات مناهضة لها، ويميزها ذلك عن بقية المجالات المعرفية غير العلمية، ويرى بوبر أن الممارسة العلمية تتميز بجهدها المستمر في اختبار النظريات العلمية وإجراء المراجعات بناءً على هذه الاختبارات، وعلى النقيض نجد النظريات التي تُحصِّن دائمًا من التخطيء، لا يمكن تصنيفها على أنها علمية (3).
ويَبني الفيلسوف الأمريكي توماس كون (Thomas Kuhn 1922-1996) على أفكار بوبر، ويرى أن العالِم يحُل الألغاز والمشكلات عوضًا عن اختبار النظريات الأساسية، ويطرح مثالًا في الفرق بين علم الفلك (Astronomy) والتنجيم (Astrology)، إذ يبحث عالم الفلك عن حلول لأخطاء النظريات الفلكية بالقياسات والتعديلات، أما المنجِّم فلا يتعرض لقضايا بحثية، ولا يمتلك أدوات لاختبار طريقة التنجيم، ما يجعله علمًا زائفًا (2).
أما الفيلسوف المجَري إمري لاكاتوس (Imre Lakatos 1922-1974)، فيرى أن المعيار العلمي الفارق يجب أن يُطبق على مجال بحثي كامل بدلًا من فرضية ما، لتستبدل نظريات المجال المعرفي بعضها باستمرار، إذ برأيه يكون المجال البحثي تقدميًّا إذا قدمت النظريات الجديدة نتائج مفاجئة أُكِّدت، في حين يكون البرنامج البحثي الفاسد متماشيًا مع الأفكار الشائعة، ولا تتطور نظرياته لتصبح أكثر شمولًا وقابلية للتنبؤ (2).
وتتعدد المعايير التي وضعها فلاسفة آخرون لتمييز العلم عن العلم الزائف، وتتكامل مع بعضها بتحديد المنهجية التي تنصاع لها العلوم اليوم (2)، التي سنتطرق إليها بالتفصيل في مقالات لاحقة.
ومن ناحية أخرى، يضع عالم الاجتماع الأمريكي روبرت كي. ميرتون (Robert K. Merton 1910-2003) مجموعة محددات ضرورية للعلم، وهي العالمية؛ بمعنى أن الادعاءات يجب ألا تخضع لمعيار شخصي أو اجتماعي عند قبولها أو رفضها، والمجتمعية؛ بمعنى أن النتائج العلمية تعود ملكيتها للمجتمع بالكامل عوضًا عن الأفراد والمجموعات، والثالث هو حيادية الاهتمام؛ بمعنى وجود سلطة مؤسساتية تلغي الدوافع الشخصية والإيديولوجية عند الباحثين، ورابعها هو ممارسة الشك المنظم في جميع المعتقدات والأفكار (2).
بعد استعراضنا لأهم محددات المنهجية العلمية وأسلوبها الصارم الذي يميز معرفة ما عن غيرها من المعارف والأفكار، هل تستطيعون -أصدقاءنا- الآن، تمييز العلم عن بقية مجالات المعرفة الأخرى؟
المصادر: