HeLa.. الخلايا التي قتلت صاحبتها ثم منحتها الخلود!
البيولوجيا والتطوّر >>>> منوعات بيولوجية
عندها قامت بزيارة مشفى Johns Hopkins لإجراء الفحوصات، فقابلها الطبيب هوارد جونز Dr. Howard Jones وقام بفحصها، وقد لاحظ شيئاً غريباً سوف يُرافقه لعقودٍ قادمة؛ كتلة لامعة تشبهُ الهلام الأرجوانيّ. كانت الكتلة ذاتَ حجمٍ كبيرٍ نسبياً وتتوضّع أسفل يمين عنق الرحم لدى السيّدة، وقد لاحظ أنَّ هذه الكتلة تنزف بسهولة بمجرّد لمسها.
اعتقد الطبيب أنّ الأمر لا يعدو كونه عدوى التهابية، وأجرى فحصاً للكشف عن مرض الزهريّ، لكنّ النتائج كانت سلبية. ثم طلب أخذ خزعةٍ للتشخيص (وذلك عن طريق قطع جزءٍ صغيرٍ من الكتلة لدراستها)، وخلال 48 ساعة كانت النتيجة واضحة: ورمٌ سرطانيّ!
بعد ثمانية أيام، عادت السيّدة لاكس مرةً أخرى إلى المشفى لمتابعة حالتها، وعندها قام طبيبٌ آخر باقتطاع جزءٍ من الورم، ثم قام الأطباء بوضع كبسولات الراديوم حول عنق الرحم للقضاء على الورم، وخرجت من المشفى. خلال الأيام اللاحقة، قامت السيدة لاكس بعدّة زياراتٍ إلى المشفى، ولكنّ نموّ السرطان كان أسرع من أن تقتله كبسولات الراديوم.
في الثامن من أغسطس عام 1951 ذهبت السيّدة لاكس إلى المشفى للمرّة الأخيرة. وبعد محاولات مُضنية كثيرة، توفيّت في الرابع من أكتوبر عام 1951.
ولكنَّ هذه لم تكن نهاية قصّة السيّدة لاكس، بل هي بدايةٌ لقصّةِ خلود خلاياها حتى يومنا هذا!
بعد وفاة لاكس، أجرى الأطباء تشريحاً كاملاً للجثة ليجدوا الكثير من الكتل البيضاء الثابتة التي رصّعت جسدها بالكامل؛ التجويف الصدري، الرئتين، الكبد والكلى. أما المثانة فقد بدت كأنها كتلةٌ ورميّةٌ صلبةٌ واحدة. لقد ظهرت الخلايا السرطانية وكأنها تنمو بطريقةٍ مجنونة!
لاحقاً، بعد حوالي عشرين عاماً، استقبلت عائلة السيّدة لاكس اتّصالاً غريباً؛ أراد الباحثون أخذ عيّناتٍ من دم أبناء لاكس لكي يتسنّى لهم التعرُّف أكثر على التركيب الوراثيّ لوالدتهم المتوفيّة. تسائلت العائلة عن سبب هذا الإجراء، فأخبرهم الباحثون بالسبب: إنّ هناك جزءاً من جسد والدتهم لا يزال حياً ويتكاثر باستمرار منذ أكثر من عشرين عاماً!
قام الباحث جورج غاي George Gey بإجراء الدراسات على الأنسجة المأخوذة من الخزعة التي أُخِذَت من الأم عام 1951، وقد كان يحاول لسنواتٍ جعلَ نسيجٍ بشريّ ينمو خارج الجسم، وذلك خلال أبحاثه في مجال علاج السرطان، لكنّه لم ينجح في تحقيق ذلك.
عند دراسة الأنسجة الخاصّة بالسيّدة لاكس، توقّع الباحثون أنّ خلاياها ستفعل مثلما فعلت العيّنات السابقة: إمّا لا شيء، أو أنّها ستعيش لبضعة أيّامٍ ثم تموت. لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فقد شرعت الخلايا بالنمو في أطباق بتري (مخبرياً) وبدأت تتراكم فوق بعضها البعض بشكلٍ خارجٍ عن السيطرة.
في اليوم الذي توفّيت فيه السيّدة لاكس، ظهر الدكتور جورج غاي على التلفاز في برنامجٍ يُدعى "Cancer Can Be Conquered" حاملاً خلايا لاكس أمام الكاميرات، مُعلناً عن إنجازه العظيم: أوّل خطّ خلايا بشريّة يتمّ تنميته خارج المختبر!
وقد أطلق على هذه الخلايا اسم "HeLa"، وهي تُمثّل الحرفين الأوّلين من الإسم الأول والثاني للسيدة هنريتا لاكس، ثم قام بتوزيع هذه الخلايا على الباحثين في مختلف أنحاء البلاد لاستخدامها في دراستهم.
توالت بعد ذلك الإستخدامات المتعددة لهذه الخلايا،حيث قام جوناس سالك Jonas Salk، البروفيسور في كليّة الطب في جامعة بيتسبره، بحقن خلايا "HeLa" بفيروس شلل الأطفال، وقام بدراسة ردود الأفعال التي تُبديها هذه الخلايا. وبحلول العام 1955 كان سالك قد تمكّن من إنتاج لقاحٍ أدّى إلى اختفاء المرض تقريباً.
اقتحمت خلايا "HeLa" مُعظم مجالات البحث العلمي، فقد استخدمت بعض الشركات هذه الخلايا لاختبار مستحضرات التجميل، كما وضع العلماء بعضاً منها بالقرب من مواقع اختبارٍ ذرِّية لاختبار آثار الأشعة المنبعثة على الخلايا البشرية.
أرسل الباحثون خلايا "HeLa" مع فئرانٍ بيضاء إلى الفضاء لاختبار ما يُمكن أن يحدث للخلايا البشرية في حالة انعدام الجاذبية، كما ساعدت هذه الخلايا العلماءَ على اكتشاف الخرائط الوراثية! وقد غيّرت الطريقة التي يتعامل بها العلماء مع الخلايا والأبحاث المخبرية.
لقد وُلِدت العديد من خطوط الخلايا، لكنّ "HeLa" بقيت المقياس الذهبي، لأنها قويّةٌ بشكلٍ لا يُصدّق. معظم الخلايا تتضاعف مخبريّاً خلال ما يُقارب 36 ساعة، لكنّ خلايا "HeLa" تتضاعف خلال 24 ساعة فقط. بالإضافة إلى ذلك ، فإنّ الصبغيات في معظم الخلايا تبدأ بالتقلّص مع كل عملية تضاعف تخضع لها حتى تصل الخلايا إلى مرحلةٍ تعجز فيها عن الإنقسام، ولكن هذا لا يحدث مع خلايا "HeLa"، إنّها خلايا خالدة!
مؤخّراً، تمّ منح جائزتي نوبل لبحثين لعبت خلايا "HeLa" دوراً جوهريّاً في كلٍّ منهما، أحدهما يستكشف العلاقة بين فيروس الورم الحليمي البشري وسرطان عنق الرحم، والآخر يستكشف دور التيلوميراز في منع تقلّص الكروموسوم.
ولا زالت الدراسات قائمة لمعرفة ما يُميّز هذه الخلايا عن غيرها، وما الذي يمنحها القدرة على الخلود!
المصادر:
هنا
هنا