فولتير.. فيلسوفُ عصرِ التنويرِ الأشهر
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> أعلام ومفكرون
لا تُذكَرُ الثورةَ الفرنسيةَ التي اشتعلتْ عامَ 1789م؛ إلا ويُذكَرُ معها اسمُ (فولتير)، تمامًا كما تُذكَرُ أسماءُ روسّو، وديدرو، ومونتيسكيو، وغيرِهِم من المفكرين الذين مهَّدوا لهذه الثورة؛ لِما وضعوه من أُسُسِ التنوير. وبفضلِ المكانةِ المرموقةِ التي احتلَّها هذا الأديبُ والفيلسوفُ في مجالاتٍ مختلفة، وارتباطِ أدبِه بأحداثِ عصره؛ ذاعت شهرتُه إلى الحدِّ الذي لا يمكنُ تصوُّرُ القرنِ الثامنَ عشرَ من دونِه. لنتعرّفْ أكثرَ على هذا الرجلِ الذي حُورِبَ نتيجةَ أعمالِه التي أثارتْ ضجيجًا وجدلًا.. إليكم (فولتير).
فولتير - البدايات:
هو (فرانسوا ماري أرويه)، وُلدَ في باريس عامَ 1694م، لأبٍ من رجالِ القانونِ يعملُ مُوَثِّقَ عقود، وأمٍّ تنحدرُ من أصولٍ نبيلة. كان الأخَ الأصغرَ لخمسةِ إخوة، هو الوحيدُ الذي عاشَ منهم. عندما أنهى فولتير دراستَه، كان قد صمَّمَ على أن يصبحَ كاتبًا، إلّا أنّ والدَهُ كان يريدُه أن يعملَ في المحاماة، وعندما لمْ يرغبْ في إغضابِ والدِه؛ تظاهرَ بأنّه يعملُ في مهنةِ مساعدِ محامٍ، بينما كان يقضي معظمَ وقتِه في كتابةِ الشعر. وعندما اكتشفَ والدُه الأمرَ أرسلَه لدراسةِ القانون؛ ثم استطاعَ لاحقًا أنْ يحصلَ له على وظيفةِ سكرتيرِ السّفيرِ الفرنسيِّ في هولندا، ليقعَ الشابُّ في هوى لاجئةٍ فرنسيةٍ تُدعى (كاثرين أوليمب)، عندها أُجبِرَ على العودةِ إلى فرنسا مرةً أخرى. في العشرينيّاتِ من عمرِه، دخلَ فولتير في مشاكلَ عِدّةٍ مع السلطات؛ بسببِ هجومِه المتحمِّسِ على الحكومةِ وعلى الكنيسةِ الكاثوليكيّة، فحَكِمَ عليه بالسَّجنِ في الباستيل لأحدَ عشرَ شهرًا، ليكتبَ هناك أولَ أعمالِه المسرحيّة (أوديب)، التي كانَ نجاحُها أولى ركائزِ شهرتِه الأدبيّة.
رحلَ فرانسوا إلى إنجلترا عامَ 1726م بعدَ المحنةِ التي عايشَها في سِجنِ الباستيل، وقد اتّخذ لنفسه لقب (فولتير) معلنًا انفصالَه الرسميَّ عن عائلتِه وماضِيه، واستمرَّ بهذا الاسمِ بقيةَ حياتِه.
وعندما وجدَ فولتير الشابُّ أنَّ إنجلترا التي رحلَ إليها تُتيحُ له حريّةَ التعبيرِ عن الرأيِ وحريّةَ العقيدة؛ فكّرَ في الإقامةِ الدائمةِ فيها، فتأثّرَ بالنّظامِ البريطانيِّ الملكيِّ الدُّستوريّ، وقارنَه بالنظامِ الفرنسيِّ الملكيِّ المطلَق، وقد أُعجِبَ بما تتمتّعُ بهِ الكنيسةُ البروتستانتـيّةُ الإنجليزيّةُ من استقلاليّة؛ ممّا يجعلُها متحرّرةً من وِصايةِ الكنيسةِ (الرّومانية)، هذا الاستقلالُ الذي صبغَها بصفةِ الكنيسةِ القوميّة؛ فكانت تَرعى حقوقَ مواطنِيها.
كانت أهمَّ فكرةٍ نادَى بها هي نزعُ صفةِ الأمرِ المطلَقِ عن الحاكم، وحصرُ سلطاتِه وتقييدُها، إذْ يرى أنّه ينبغي ألّا يتدخلَ إلا في ما يضمنُ السلامَ المدنيّ، وعليه أنْ يمنحَ الناسَ حريّةَ الاعتقاد، فالدِّينُ أمرٌ يَخُصُّ الفردَ وحدَه، وهو علاقةٌ شخصيةٌ بينَه وبين الله، وحقوقُ السلطةِ المدنيةِ وسلطتُها تنحصرُ في المحافظةِ على الخيرات، وتنميتِها خصوصًا، ولا ينبغي أو لا يمكنُ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ أنْ تمتدَّ إلى نجاةِ النفوس.
تأثَّرَ فولتير هناك بالعديدِ مِن كُتّابِ عصرِه الذين ينتمونَ إلى المدرسةِ الكلاسيكيّةِ الحديثة، وازدادَ اهتمامُه بالأدبِ الإنجليزيّ، خاصةً أعمالَ شكسبير التي لم تكنْ قد نالتْ قدرًا كبيرًا مِن الشهرةِ في أوروبا آنذاك. كان فولتير من المعجبينَ بالثورةِ الفلسفيّةِ الإنجليزية، التي اعتمدتْ على العلومِ التجريبيّة، وقد كان يُرجِعُ هذه الثورةَ الفلسفيّةَ إلى أعمالِ جون لوك، ونيوتن.
عادَ إلى باريسَ مرّةً أخرى لينشرَ آراءَه حولَ الموقفِ البريطانيِّ من الحكومةِ، والأدبِ، والعقيدة، في صورةِ مجموعةٍ من المقالاتِ التي تأخذُ شكلَ الخطابات، والتي لاقت اعتراضاتٍ كبيرةً في فرنسا، لدرجةِ القيامِ بإحراقِ النسخِ الخاصةِ بهذا العمل، وإجبارِه مرةً أخرى على مغادرةِ فرنسا.
فولتير - الفيلسوف:
قال (فيليب راينو): «في آخرِ رسالةٍ فلسفيَّة، يقومُ فولتير بنقدِ أفكارِ باسكال، من خلالِ ذلكَ يمكنُنا قراءةُ فكرِه الفلسفيّ.. قلقُ الإنسانِ هو الذي يدفعُه إلى طلبِ الاستمتاع، والاضطرابُ الدائمُ ليسَ علامةَ بؤسِ الإنسان، بل على العكسِ من ذلك، يجبُ أنْ نشكرَ اللهَ الذي أَوْدَعَ فينا غريزةً تنقُلُنا إلى البحثِ عن المستقبل. هذه الفكرةُ المِفصليةُ التي تمكِّنُنا مِن تبيُّن فِكْرِ فولتير».
يرى فولتير أنَّ حَيْرَةَ الإنسانِ وقلقَه ليسَا بالشيءِ السلبيّ؛ ذلك أنَّ القلقَ يكونُ بمثابةِ الدافعِ الذي يحثُّه على البحثِ عن أسبابِ الراحة، فلولا القلقُ لَبَقِيَ الإنسانُ خاملًا لا يستمتعُ بالحياة. يرى أيضًا أنّ عليه ألّا ينظرَ إلى اضطرابِه على أنّه عقاب، وأنّ اللعنةَ قد حلّتْ عليه فيصيبَهُ البؤسُ ويعمَّهُ التشاؤم، وإنما يجبُ أنْ ينظرَ إليه من زاويةِ امتلاكِه لقدرةٍ غريزيّةٍ أودعَها اللهُ فيه، قادرةٍ على دفعِه إلى البحثِ عن مستقبلٍ أفضل، وعليه عدمُ الاستكانةِ إلى حالةِ التشاؤمِ السلبيِّ الذي سيخلِّفُه الاضطرابُ، والخمولُ، وعدمُ امتلاكِ الإرادة. هذه الإرادةُ التي يجبُ أن تكونَ قويةً حتى يُبْدَلَ اضطرابُه استقرارًا، وذلك عن طريقِ البحثِ المتجددِ عن أسبابِ الراحة.
فولتير - المُصلح:
انتفضَ فولتير ضدَّ الحكمِ الملكيّ، ونادى بضرورةِ أنْ يكونَ الحكمُ قائمًا على أساسِ قانونِ العقلِ والمنطق، وليسَ على أهواءِ شخصٍ من الأشخاص، حتى لو كان ذلك الشخصُ الملِكَ نفسَه. وإذا كان فولتير يروي آثارَ الظلمِ الذي تفرضُه المَلَكيّة؛ فلأنه يريدُ أنْ يعيَ الناسُ هذا الأمرَ، ويقفوا بوجهِه.
وعلى ذلك، سعى فولتير إلى رسمِ برنامجٍ سياسيٍّ يهدِفُ مِن خلاله إلى القضاءِ على التعصُّبِ الدينيّ؛ وذلك بتقويةِ الدولةِ على حسابِ الكنيسة، إذ تُمثّلُ الدولةُ الجانبَ القانونيَّ المدنيّ، في حينِ تُمثّلُ الكنيسةُ الجانبَ الدينيَّ المتشدِّد، على ألّا يقعَ الخلطُ بين الجانبين، فيُتَّهمَ الفردُ في إيمانه بالله.
كما آمنَ بالسياسةِ الملَكيَّةِ في بلاده، وبقدرتِها على تخطّي هذه العقَبةِ للفصلِ بين الدولةِ والكنيسة؛ وذلك عبر نشرِ مبادئِ حقوقِ الإنسان، وحمايةِ الأفراد، وإبطالِ أنواعِ التعذيبِ القضائيّ، وجعْلِ القوانينِ الجزائيةِ غيرِ الواقعيةِ أكثرَ انسجامًا مع الإنسان، ومستجيبةً إلى طبيعته الإنسانية.
فولتير - الأعمال:
كتبَ فولتير حواليْ تسعةٍ وتسعينَ كتابًا، وتنوعتْ أعمالُه ما بين القصائدِ، والمسرحياتِ، والرواياتِ، والمقالاتِ، والأبحاث. إذْ ظهرتْ موهبتُه الشعريةُ في بدايةِ حياتِه بشكلٍ يُحاكي أعمالَ فيرجيل، فضلًا عن الأسلوبِ الساخر الذي اعتمدَه لمهاجمةِ بعضِ المفاهيمِ الدينيةِ والتاريخية. هذا بالإضافةِ إلى أعمالٍ أخرى هاجمتْ بعضَ الأساليبِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ التي كانت سائدةً في ذلك العصر. أمّا أعمالُه الأدبيةُ التي نذكرُ منها: (كانديد)، و(أوديب)، و(زاديج)، فقد اتّسمتْ بنبرةِ النقدِ اللاذعة، الموجَّهةِ للعاداتِ والتقاليدِ المتداوَلةِ في ذلك العصر.
كتبَ فولتير أيضًا عددًا هائلًا من المراسلاتِ الخاصة، والتي بلغتْ حواليْ عشرينَ ألفَ رسالة، ظهرت من خلالها شخصيتُه، والحيويةُ التي يتمتعُ بها، وسخريتُه قاسيةُ القلب.
وكانت أكبرَ الأعمالِ الفلسفيةِ التي أنتجَها هي المقالاتُ التي خصَّصَها لانتقادِ المعاهدِ السياسيةِ الفرنسية، وأعدائِه الشخصيِّين، وانتقدَ كذلك السياسةَ الاستعماريةَ الفرنسيةَ في أمريكا الشمالية.
أما عن أعمالِه المسرحية، فنذكرُ على سبيلِ المثالِ لا الحصر: (إيرفيل)، و(ميروب)، و(نانين)، و(زائير). هذا فضلًا عن كتبِه: (محمد)، و(رسالة في التسامح)، و(دراسة في الأخلاق).
فولتير - النهايات:
في شباط عامَ 1778م، عاد فولتير لأولِ مرّةٍ منذ عشرينَ عامًا إلى باريس ليشهدَ افتتاحَ آخرِ أعمالِه التراجيديّة، وهي مسرحيةُ (إيرني)، فسافرَ لمدّةِ خمسةِ أيام، وكان يناهزُ الثالثةَ والثمانينَ من عمرِهِ، ويعتقدُ أنه على شفا الموت؛ فكتب:
«أنا الآن على شفا الموت، وأنا أعبدُ الله، وأحبُّ أصدقائي، ولا أكرهُ أعدائي، وأَمْقُتُ الخرافات». لكنه تماثلَ للشفاءِ، وشهدَ عرضَ المسرحية، ثم سرعانَ ما مرضَ ثانيةً، ومن ثَمَّ تُوفي. لم يُسمَحْ بدفنِه؛ وَفْقًا للشعائرِ الكاثوليكيّة؛ فقامَ أصدقاؤه بدفنِ جُثمانِه سرًّا في إحدى الكنائسِ الكبيرةِ في مقاطعةِ شامباين، وذلك في الثلاثينَ من آذار عامَ 1778م، عن عمرِ 83. القائلُ أبدًا:
«لا يمكنُ لنا -بصفتِنا أفرادًا- أنْ تكونَ هناك حريّاتٌ فرديةٌ أساسيةٌ، ضمْنَها حريةُ التعبير، إذا لمْ نتمكنْ من التدليلِ على معتقداتِنا الشخصيةِ وتوثيقِها».
المصادر:
1 - خالص جلبي - مبدأ فولتير وسقف الحريات - شبكة فولتير - 2005.
2 - أحمد صوان - فولتير فيلسوف عصر النهضة - البوابة - 2015.
3 - بشير الهمامي - فولتير وفلسفة الأنوار - الأوان - 2012.
4 - آنا ماريا شقير - كانديد أو التفاؤل - دار الهلال - بيروت - 2005.