كاندي كراش: لعبة بريئة، أم فكرة جهنمية؟
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
(صراعُ العروش)، (كاندي كراش)، الأغاني الضّاربة... لماذا نتابِعُها؟ وما الذي يجعلُنا نَتُوقُ لمشاهدتِها؟ ماذا لو علِمْنا أنها ليست مجردَ قنواتٍ للتسلية؟
أعمالٌ تتراكمُ عليك، وأمورٌ مستعجَلةٌ يجبُ أنْ تُنجِزَها، ولكنك تجلسُ في مكتبِك تحاولُ أنْ تحققَ التنظيمَ في أمرٍ آخر، ألا وهو الحلوى! مَن منّا لمْ يُنَصِّبْ (كاندي كراش) على جهازِه المحمولِ أو اللوحيّ؟ نَسرِقُ دقائقَ أو ساعاتٍ مِن وقتِ عملِنا أو دراستِنا؛ لنحاولَ تصنيفَ وترتيبَ هذه الحلوى، ورَغْمَ شعورِنا بتفاهةِ اللُّعبةِ إلا أننا لا نستطيعُ أنْ نتوقف! قد يستغربُ البعضُ ويتساءلُ عن علاقةِ (كاندي كراش) بالفلسفةِ وعلمِ الاجتماع، إلا أنّ (ألفي بون) في كتابِه الجديد (Enjoying It: Candy Crush and Capitalism) يقدِّمُ لنا تحليلًا حولَ وسائلِ الترفيهِ في الثقافةِ الدارجة، وأهميةِ هذه الوسائلِ في تركيزِ دعائمِ الرأسِماليّةِ وأهدافِها. إذن فـ(كاندي كراش) ليست إلا غَيْضًا مِن فَيْضٍ مِن وسائلَ مدروسةٍ لتطويعِنا لا شعوريًّا –كالآلات- لفِعلِ ما هو مطلوبٌ منّا دونَ اعتراض.
يبدأُ بون كتابَه، فيخبرُنا في الفصلِ الأول (الاستمتاعُ المثمر: الرأسُماليةُ والنظريةُ النقدية)؛ بأنّ وسائلَ الترفيهِ التي تُصنَّفُ على أنها رادِيكاليةٌ أو ثورية، غالبًا ما تكونُ مُرَمَّزةً بالخطابِ الرأسِماليّ؛ لتصبحَ شكلًا من أشكالِ الانسياقِ والتوكيدِ على هذا الخطاب، الذي نعتقدُ بأننا نقاوِمُه. على سبيل المثال، (يوتيوب)، و(فيسبوك)، و(انستَغرام)؛ يولِّدون لدينا شعورًا فَوريًّا بالرِّضا، عندما نقومُ بمشاركةِ (فكرةٍ جوهريةٍ) أو (أمرٍ إنسانيّ)، دونَ الحاجةِ إلى المشاركةِ الفعليةِ في الموضوع. فهذه المشاركةُ الافتراضيةُ تخفِّفُ الشعورَ بالذنب. إذْ إنّه عندما يقومُ الأشخاصُ بمشاركةِ فكرةٍ ما عبرَ هذه الوسائلِ الافتراضية، لراديكاليٍّ مثلِ (ثيودور أدورنو)، أو (ميشيل فوكو)؛ فإنهم يحاولون إقناعَ الغيرِ وأنفسِهم بأنهم (رادِيكاليّون)، وبأنهم (يغيّرون العالمَ) حولَهم. يعتقدُ بون أنّ فكرةَ (الراديكاليةِ) و(الثوريةِ) أصبحتْ مجردَ سلعة؛ فالرأسُماليةُ قادرةٌ على امتصاصِ وهضمِ أيِّ فكرة، وتحويلِها إلى سلعة، وبيعِها للجمهورِ الذي يرغبُ في استهلاكِها.
كذلك يطرحُ بون قضيةً مثيرةً للقلقِ، فيقول:
«مِن الأهميةِ أنْ ندركَ أنّ هذا الاستمتاعَ غيرُ مثمِر، وينبغي أنْ ننظرَ إليه بصفتِه شكلًا مثمِرًا للتَّبَعِيّةِ الحديثة... وسائلُ الترفيهِ الاعتياديةِ (غيرُ المثمرةِ) و(المشتَّتةُ) تُعَدُّ جزءًا جوهريًّا في تحديدِ علاقتِنا بما نَعُدُّه عملًا».
فإذا نظرْنا إلى لعبةِ (كاندي كراش) أو غيرِها، فسندركُ أنها ليست إلا وسيلةً استهلاكيةً لهدرِ الوقتِ في مكانِ العمل. هذا التشتُّتُ في مكانِ العملِ يحدِّدُ أحكامَنا القِيَمِيَّة؛ فالعملُ الذي نقومُ به نَعُدُّه (مهمًّا) و(واقعيًّا)، ولعبةُ (كاندي كراش) ما هي إلا وسيلةَ إلهاء، لكنّ الواقعَ أمرٌ آخر؛ فـ(كاندي كراش) أكثرُ مِن مجردِ تسلية. يُحلِّلُ بون الفكرةَ كما يلي: عندما نلعبُ (كاندي كراش)، فإنّنا نشعرُ بالرِّضا مِن تحقيقِ النظامِ المطلوبِ فيها، الأمرِ الذي قد نرفضُه في العمل. وبالرجوعِ إلى (والتر بينجامين) و(جان بودريار)، يؤكِّدُ بون أنَّ هذا التشتُّتَ يُعَدُّ دِرْعًا لنا مِن علاقتِنا بعملِنا، والتي غالبًا ما تكون مُتَشَظِّيَةً وغيرَ متماسِكة، فإذا وَجدْنا أنفسَنا مُجبَرين على العملِ دونَ إلهاء؛ فقد نقعُ ضحايَا لاغترابٍ عميق، فلا نتمكنَ مِن تقبُّلِ هذا الواقعِ والتوقُّفِ عن العمل، ومِن ثَمَّ فإنّ هذا الإلهاءَ نابعٌ مِن الضرورة.
يستخدمُ بون نظريةَ (الآخرِ الكبير) لـ(جاك لاكان)، فيعرِّفُ هذا (الآخَرَ) بأنّه مَن يكونُ «كالإلهِ الذي يراقبُنا، ولديه القدرةُ على ضمانِ انسياقِنا لمَجرى الأمور». ويرى أنَّ وسائلَ التواصلِ الاجتماعيّ ليست إلا طريقةً لوضعِ الخبراتِ والتجارِبِ التي تؤكِّدُ الانتماءَ لمنظومةِ هذا المجتمعِ وآرائِه وأذواقِه، فيقول:
«في بعضِ الحالات، قد لا يُلاحَظُ ما نضعُه على وسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ، وقد لا يُنظَرُ إليه أصلًا، ولكننا نشعرُ بأنّ هذا (الآخرَ الكبيرَ) المتخيَّلَ قد نظرَ إليه ووافقَ عليه. فعندما ننشرُ شيئًا ما للعُموم، فإننا نتخيلُ موافقةَ الآخرينَ عليه. قد يكونُ هذا (الآخرُ الكبيرُ) وهميًّا، ولكنه مزيجٌ مِن عددٍ لا نهائيٍّ مِن الآخرينَ الذين نحاولُ اسْتمالتَهم».
ويستخدمُ بون نظريةَ لاكان حولَ المتعة (Jouissance)، ليُعرِّفَها بأنها اللَّذةُ الجسديةُ أو الفكرية، وضمنَ هذه المتع، تندرِجُ الأغاني الضاربةُ والمسلسلاتُ المحبَّبةُ للجُمهور. فبالرَّغمِ مِن عدمِ وجودِ هدفٍ مفيدٍ ومنتِجٍ لأغنيَةِ (Gangam Style)، إلا أنها محبوبةٌ مِن قِبَلِ الأغلبيةِ الذين يقومون بتقليدِ رقصةِ الأغنيَةِ الغريبة. فما هي بالنسبة لبون إلا «نوعًا مِن التمتعِ الجنسيِّ الذي يصاحبُه تدميرٌ ذاتيّ». وبالرَّغمِ مِن غرابةِ هذه الأغنيةِ وعدمِ تقبُّلها لدى البعض، إلا أنهم لا يستطيعون أن يتجاهلوها. وفي سياقٍ آخر، يُحلِّل بون شعبيةَ مسلسلِ (صراعِ العروش) (Games of Thrones)، فيقول:
«عنفُ هذا العرضِ يُعَدُّ نوعًا مِن السَّادِيَّةِ وحبِّ التَّلَصُّص، ويرتبطُ بتاريخٍ كاملٍ من العروضِ الدمويَّةِ في التلفازِ والأفلام. فالصورُ الجنسيَّةُ الصريحةُ -والتي تكونُ أكثرَ وضوحًا في التلفازِ عمّا هي عليه في الكتبِ والروايات- يمكنُ النظرُ إليها على أنها انعكاسٌ لرغبةٍ جسدية».
ومِن ثَمَّ فإنّ مشاركتَنا لمشاهدةِ هذه العروضِ والأغاني الدارجة، ما هي إلا متعةٌ سادِيَّةٌ دونَ وسيلةٍ ودونَ غاية.
ومِن الذين طرحوا هذا الموضوعَ سابقًا (سلافوي جيجيك)، الذي أشارَ إلى أنّ الأمرَ الوحيدَ الذي يَصدُرُ عن الأنا الأعلى في عصرٍ ما بعد الحداثةِ هو (المتعة). في حين أنّ (مارك فيشر) قد طرحَ فكرةَ الرأسِماليةِ الواقعية، ومفهومَ (الاكتئابِ الممتعِ) الذي يَنْتُجُ عن الضغطِ الدائمِ على الفردِ للانغماسِ في متعٍ قصيرةِ المدى. تكمُنُ الفكرةُ في معرفتِنا أنّ هذه الألعابَ والمسلسلاتِ مَضْيَعةٌ للوقت، ولكنها تجعلُ عملَنا يبدو مثمرًا ومهمًّا أكثرَ مما هو عليه في الواقع. عندما نقومُ بهدرِ خمسِ دقائقَ على لُعبةٍ تافهة، فإننا نشعرُ بالذنب، ونقومُ بأداءِ عملِنا بشكلٍ أفضل! ومِن ثَمَّ فإنها تقومُ بتجديدِ حماسِنا لعملٍ قد لا نحبُّه، عن طريقِ تحفيزِ الشعورِ بالذنب.
إذن، يمكنُنا الاستنتاجُ بأنه لا مفرَّ مِن الرأسِماليّة، ووسائلُ الترفيهِ الحديثةِ ما هي إلا وجهٌ آخرُ لها؛ فقد استطاعت السيطرةَ على جميعِ أوجُهِ حياتِنا، بطريقةٍ لم تكن ممكِنةً لأيِّ أيديولوجيةٍ أخرى، فأصبحت العبوديةَ الحديثةَ التي تفرِضُ علينا وسائلَ الترفيه. وبهذا تضمَنُ الرأسُماليةُ طاعتَنا لفعلِ ما لا نريد، لنجدَ أنفسَنا نقومُ به ونحن على قناعةٍ تامّةٍ بأنه الأمرُ الصحيح.
المراجع:
هنا
هنا