موضوعات الوجودية - الجزء الثالث
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
يقول الوجوديون عبارة يرددونها دائماً لفولتير: "كن رجلا ولا تتبع خطواتي". إنَّ الفلسفة الوجودية حينما قامت، إنما جاءت ناقدة عاملة في اتجاه مضاد لتلك الحركات الجماعية وتلك الفلسفات التي تدعو إلى صبِّ الناس في محددات وبديهيات معينة من ناحية الاعتقاد والتفكير وأسلوب الحياة ونوع السلوك. سنتناول الفلسفة الوجودية التي قلّت الأقلام التي تناولتها، وسنعرضها في سلسلة تتضمن تعريفاً بها، لماذا نشأت؟ وما هي موضوعاتها وسماتها؟
موضوعات الوجودية..
إنَّ موضوعات جميع الفلاسفة الوجوديين هي موضوعات تُشكِّل جوهر الوجود الشخصي، مثل الحرية واتخاذ القرار والمسؤولية والاغتراب، كاليأس والموت. ما يُميز الإنسان عن جميع الموجودات الأخرى هي ممارسته الحرية وقدرته على تشكيل مستقبله، فعن طريق اتخاذ القرار الحر والمسؤولية يحقق الإنسان ذاته الحقّة. ومن هذه النقطةِ تحديداً كانت موضوعات الوجودية.
• الاغتراب alimentation :
تظهر فكرة الاغتراب في كتابات الوجوديون كثيراً. وقد أدت هذه الفكرة دوراً لا يستهان به في تفكير العصور الحديثة حتى قبل ظهور الوجودية. كانت هذه الفكرة بارزةً في فكر كل من هيغل وماركس، على الرغم من أنها اتخذت أشكالاً متباينة عند كل منهما، فالأول يذهب إلى أن الاغتراب يوجد في صميم بنية الحياة الكلية ذاتها، أما ماركس فيقول إن الاغتراب يوجد في بنية شروط العمل البشري التي تظهره، لأنه يغترب عن عمله ذاته وزملائه. الحل عند هيغل يكون عن طريق مذهب فلسفي يناظر العملية الجدلية للعقل الكلي، أما ماركس فيبحث عن هذا الحل في تغيير ثوري للأحوال الاقتصادي؛ إذ يحصل انسجام بين الإنسان وعمله. إنَّ الوجودي يفهم الاغتراب بأنه اغتراب الموجود البشري عن موجوده العميق، إذ يكون ذاته ووجوده في الوجود الجمعي هو صفر. (2)
• اتخاذ القرار:
تسلط الوجودية الضوء على الفعل لكون الموجود البشري فاعلا. يدعو الوجودي إلى صحوة تحوّل جذري، فأول ما ينبغي علينا أن نفعله هو ببساطة أن نختار الاختيار ونمارس القدرة على اتخاذ القرار. لا يهم كثيراً مضمون القرار بمقدار ما يهم نوعيته بوصفه فعلاً شخصياً يأخذه الفاعل على عاتقه بكل ما يمتلك من حماسة وإصرار. فالإنسان لا يكون ذاته تماماً وحقاً إلا في حالة الفعل الذي يشمل الفكر والحرية والقرار.
إنَّ القرار يضع الموجود البشري أمام نفسه. ولهذا فإنّ معظمنا يكره اتخاذ القرارات مهمها كان مداها، إننا نتجنبها أو نُرجِئها بقدر ما نستطيع، لأن اتخاذ القرار يعني من ناحية الاندفاع قدماً إلى مستوى جديد للوجود البشري، ويعني من ناحية أخرى القيام بمخاطرة حرمان المرء من ممكنات أخرى كانت معروضة أمامه، إنه رهان وتعهد بالمستقبل، ولما كان المرء لا يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل فإن مثل هذا التعهد يكون دائماً محفوفاً بالمخاطر ومصحوباً بالقلق، والقرار في صالح كذا، لا بد أن يعني قراراً ضد شيءٍ ما آخر.
• الموت:
يخبرنا علماء الحياة أن وعي الإنسان بأنه سيموت هو إحدى الخصائص التي تسمح له أن يوجد بوصفه إنساناً لا حيواناً، وهذا الوعي بالموت كما يقول ثيودوثيوس دوبجانسكي هو إحدى الخصائص الأساسية للجنس البشري بوصفه نوعاً حياً. يتناول الوجوديون الموت ويفردون له مكاناً بارزاً في كتاباتهم. يُصِر كامي وسارتر وهيدجر على الحاجة إلى مواجهة الموت، بل ومواجهته بشجاعة بوصفه حقيقة واقعة، وهذه الحقيقة هي التي تظهر الأشياء كلها في نهاية المطاف متساوية ولا أهمية لها، وهذا لا يؤدي إلى الياس كما يتبادر للذهن بدايةً، بل يؤدي عند كامي إلى ظهور تمرُّد. فيقول الوجوديون إنَّ: "العصيان البشري هو احتجاج طويل ضد الموت".
• الأخلاق والدين:
ترفض الوجودية أي ضربٍ من التقُّيد الحرفي بالقواعد، إذ يُنظر إلى القوانين والقواعد على أنها أعباء مفروضة على الموجود البشري من الخارج، وتُجبره على نمطٍ من السلوك محدد سلفاً وتمنعه من تحقيق ذاته الفريدة الأصيلة، فالوجودية تشجع ما يسمى بالموقف الأخلاقي. ترفض الوجودية وجود قوانين أخلاقية؛ لأن الخضوع لها يقضي على الذاتية وينكر الشخصية الإنسانية.
المكان ينشأ من كوننا موجودين وجوداً مكانياً ومُوجهين بالفعل نحوه، فالمكان والزمان يكتسبان أهميتهما من وجهة نظر الوجوديين باهتمامنا بهما وتنظيمهما، فهناك زمانٌ للعمل وللراحة وللنوم، فيكون الإنسان بذلك على وعيٍ بالزمن عن طريق الإيقاعات الأساسية لحياته في العالم وترتيبه لها.
• الوجود الأصيل وغير الأصيل:
يكون الموجود البشري أصيلاً بالقدر الذي يمتلك فيه الموجود نفسه، وبالقدر الذي يُشكِّل فيه ذاته في صورته الخاصة. أما الوجود غير الأصيل فهو الوجود الذي تُشكله مؤثرات خارجية سواءً كانت ظروفاً أو شرائع أخلاقية أو سلطات دينية أو سياسية أو غيرها.
إنَّ صورة الوجود البشري أو شكله هي معيار أصالته. تكمن هذه الأصالة في مدى تحقيق الإنسان لوحده بدلًا من أن يكون وجوداً مبعثراً، ومدى ممارسته للحرية بدلاً من أن يحكمها الرأي والمعايير والأذواق السائدة. ليس هناك تصوّر للوجود البشري الأصيل يمكن أن يخلو من البُعد الاجتماعي، ولا يستطيع الإنسان أن يكون ذاتاً بمعزل عن الذوات الأخرى.
يقول ياسبرز: (يكفي للفرد أن يوجد، فبهذه الواقعة نفسها نتجاوز الموضوعية. وهذا هو مبدأ كل فلسفة للوجود. ولا أهمية لها إلا في نظر الأشخاص الذين ارتضوا أن يكونوا أنفسهم، واختاروا الوجود الحقيقي الأصل، لا الوجود الزائف المبتذل. هذا الوجود يبدأ من الصمت، وينتهي بالصمت، وغايته الوحيدة هي التعبير عن الوجود والوصول إلى الوجود).
وعلى الرغم من النقد الذي تعرضت له الفلسفة الوجودية من أنها تدعو لقطع العلاقات الاجتماعية وتعمل على تهميشها، إضافة لوصفها بأنها انحلالية لرفضها أي قاعدةً أخلاقية، وسواء اتفقنا مع مبادئها وأفكارها وموضوعاتها أم لم نتفق، فإن الوجودية قائمة، والوجوديون لا ينسبون لأنفسهم نصراً أو مفخرةً بنسفهِم لما أتى به العلماء والمفكرون والفلاسفة من نظريات وأسس وبديهيات، فهم يعتقدون بعدم إطلاق أي شيء حتى بما يتعلق بهم أنفسهم.
على الرغم من أن الوجودية لا يمكن أن تتوحد مع أي مذهب سياسي فلقد ألهمت المفكرين نقداً يسعى إلى الدفاع عن كرامة الإنسان ضد جميع الانتهاكات السياسية، وكانت وحياً لكثير من منظمات حقوق الإنسان. للوجودية، كأي فلسفةٍ أخرى، جوانب ضعف وجوانب قوة، وإن كنا مع هذه الفلسفة أو لم نكن، لا نستطيع أن نتغاضى ونخفي أننا نتعلم منها حقائق لا غنى عنها فيما يتعلق بالوضع الإنساني، حقائق لا يمكن لأي فلسفة إنسانية سليمة أن تستغني عنها في المستقبل. فكما يقول سارتر:"الإنسان هو الوجود الذي يتوقف وجود العالم على ظهوره".
إن الوجودية هي مذهبٌ فكريٌ جديرٌ بأن يُعرض في العالم العربي الذي لا يزال محروماً من الاطلاع عليها بحجة أنها تتعارض مع الأعراف والتقاليد. نحن اليوم نعيش في عالم اختفت فيه الحواجز ولم تعد العزلة فيه ممكنة، وعلينا أن ندرك أن الوعي بأي فكر لا يعني أبداً الانسياق وراءه أو التأثر به أو محاكاته، ومن يزعم بأن مجرد معرفة مذهب كالوجودية يزعزع تقاليد الإنسان العربي فهو يحكم على هذا الإنسان بالسذاجة والقصور.
إنّ الوجودية هي صرخة لتكون أنت نفسك وتتحرر من طغيان الجماعة وسيطرة السلطة أو التقليد الأعمى. هي دعوةٌ لكل فرد أن يكون شخصاً منفرداً متميزاً لا مجرد فردٍ في قطيع حتى ولو كنت قائداً لهذا القطيع فشعارها: "لأن تكون فرداً في جماعة الأسود خير لك من أن تقود النعاج".
استُنِدَ في إعداد هذه السلسة إلى المراجع التالية:
1- جون ماكوري،الوجودية،ترجمة إمام عبد الفتاح إمام،(الكويت: عالم المعرفة،1978).
2- ريجيس جوفيليه، المذاهب الوجودية، ترجمة فؤاد كامل،(بيروت: دار الآداب،الطبعة الأولى،1988).
3- هنا
4- توماس آرفلين،الوجودية مقدمة قصيرة جدا،ترجمة مروة عبد السلام،( دار الهنداوي، الطبعة الأولى،2014)
5- ماجد حسن، الفلسفة الوجودية، مجلة الحوار المتمدن، 2004 ، رقم العدد 802